الأربعاء، 7 مارس 2012

تفسير سفر يشوع (الفصل الرابع)

من الإصحاح الثاني عشر إلى الرابع والعشرين)           
لا ينبغي أن يكون أدنى تردُّد عند الإنسان المسيحي من جهة افتتاح كنعان، ولا مسألة هل كان ذلك من الأمور الجائزة أم لا، طالما تعب البعض من علماءِ اليهود والنصارى لكي يلطفوهُ، ولم تظهر من كلامهم نتائج حميدة موافقة لكلمة الله؛ لأن افتتاح كنعان لم يكن مثل الافتتاحات الناشئة من طمع الملوك، بل كان رأْساً بأمر الله الذي شاء أن يجري انتقامهُ العادل في الأرض، وإذ ذاك فلم يكن من مقصدهِ أن يظهر نعمة الإنجيل التي تملك بالبر للحياة الأبدية، ولا يليق مطلقاً بأن نقول كالبعض أن يشوع لم يكن قاصداً الحرب بل عرض الصلح عَلَى سكان كنعان أولاً وإنما بادر إلى الحرب بعد رفضهم إياهُ، ولا يوجد أساس للظن أنهُ لو خضعوا لهُ لكان قد استحياهم؛ لأن الله كان قد حرمهم للهلاك مطلقاً، وإذ ذاك لا نحسب إبادتهم من قساوة إسرائيل، بل نقمة عادلة من الله الذي شاءَ أن يستخدم شعبهُ لإجراءِ قضائِه. قال موسى: «حين قسم العليُّ للأمم حين فرَّق بني آدم نصب تخوماً لشعوب حسب عدد بني إسرائيل» (تثنية 8:32) كان لهُ تعالى حق لو شاءَ أن يتخذ العالم كلهُ، ولكنهُ لم يرضَ إلاَّ تخصيص أرض كنعان لنسل إبراهيم. وليس هذا من الأوهام اليهودية، بل مؤسساً عَلَى كلمة الله الصريحة، انهُ كان من الأمور المحققة من وقت دعوة إبراهيم أن الله مزمع أن يعطيهُ ونسلهُ أرضاً، وبعد مدة أظهر أنهُ اختار لهم كنعان، ولكن الشعب المختار التزم أن يصطبر زماناً طويلاً قبل امتلاكها. أنظر(تكوين 15)
فالكتاب ليس بصامت عن قصد الله من الأول أن يعطي تلك الأرض لإسرائيل، مع أنهُ كان من مقاصدهِ وطرقهِ أن يبقي آباءَهم مدة طويلة في الغربة والعبودية بينما كان الكنعاني في الأرض، وإذ ذاك كان ينبغي إجراءُ القضاء عَلَى سكانها الأولين قبل امتلاكها بيد إسرائيل، فلا نقول أن نسل إبراهيم امتلكها بموجب الحقوق الطبيعية، بل بأمر الله الذي شاءَ أن يعطيهم إياها هبةً. وليس من الحكمة أن نستغرب أعمال الله في كل ذلك لاختلافها عما أبداهُ في العهد الجديد، ولا يليق بأن نسعى لنطبق هذا مع ذاك زعماً أنها جميعها عَلَى مبدأ واحد؛ لأن الفرق بينهما عظيماً جداً كالفرق بين إجراءِ العدل الأرضي وإظهار النعمة السماوية، وإن قلنا أن الفرق بين النظام القديم والنظام الجديد ليس جوهرياً بل عرضيّاً فقط نقع في ضلال مبين يقدّم فرصة مناسبة لاعتراضات الكفرة التي لا نقدر أن ندحضها بطريقة صوابية، عَلَى انهُ ينبغي أن نحفظ في بالنا أن ذلك كان جيداً في حينهِ لإظهار عدل الله مؤقتاً في الأرض، وأما هذا فكامل لإعلان نعمتهِ الأبدية في السماء.
إن دخول الخطية إلى العالم اقتضى أن الله يفعل كقاضٍ ومنتقم، وكان انقلاب سدوم وعمورة ومدنها قد برهن ذلك في أرض كنعان نفسها قبل أن افتتحها إسرائيل تحت قيادة يشوع، كما أن معاملات الله معهم في مسير البرّية أظهرت لهم أن الله لا يتغاضى عن فعلة الإثم، نعم وأعمال أخرى أجراها من وقت إلى آخر حتى أنهُ أخرب أورشليم أخيراً بيد الرومانيين، ولكنهُ من ابتداء الإيمان المسيحي أخذ يعلن مبدأً آخر كما لا يخفى غير أنهُ لم يزل يفعل حسب المبدأ الأول في بعض الظروف؛ لأنهُ بدّد اليهود، وأخرب مدينتهم بعد رفضهم نعمة الإنجيل، وحتى الآن لهُ عناية محيطة بكل شيء وسلطان مطلق لسياسة العالم، وإن شاءَ وقتاً ما يجري قضائهُ في الأرض، ولكن مع ذلك كلهِ معاملاتهُ الحاضرة للبشر ليست ممتازة بإظهار النقمة، وإن صار شيء من هذا القبيل لا نخلطهُ مع مبدأ نعمتهِ المجانية، نراه الآن يتأنَّى عَلَى الفجار، ولكنهُ قد عين يوماً فيهِ يدين سرائر قلوب جميع الناس ويعاقب الأثمة في بحيرة النار المؤَبدة. هذا من جهة الفرق بين النظامين، وأما من جهة إبادة الكنعانيين فلا شك عندي أن كل مؤْمن يعتقد أن الله عمل ذلك بالصواب، وكل من يتفوه بكلام ضدهُ إنما يفعل ذلك من سوءِ أفكاره الباطلة زعماً أنهُ قادر أن يدين الله وينكت عَلَى أعمالهِ.
قد سبق قولي في هذا الشرح أن دعوة إسرائيل تختلف عن دعوتنا المسيحية كل الاختلاف؛ لأن الله دعاهم لإجراءِ غضبهِ عَلَى سكان كنعان ولامتلاك خيرات زمنية، ولكنهُ قد دعانا نحن لكي نتمثل بالمسيح. أنظر (بطرس الأولى 20:2-24) فالفرق بينهم عظيم جداً ولا يجوز لنا أن ننكت عَلَى الأول الذي كان مرتباً من الله في وقتهِ الخاص، ولا نمزجهُ مع الثاني، «هوذا الآن وقت مقبول، هوذا الآن يوم خلاص» (كورنثوس الثانية 2:6) فلا بدَّ من انتهاءِ الوقت هذا الممتاز بإعلان النعمة، ويعقبهُ إجراءِ الدينونة عَلَى الأحياء عند مجيء المسيح ثانيةً. كل مدة غياب المسيح موصوف في الإنجيل كوقت إظهار النعمة المطلقة لنحو العالم، وزمان ضيق واضطهاد للمؤْمنين، ولا يجوز لهم أن ينتظروا الفرج قبل رجوع سيدهم ليرجعهم إليهِ كما يُجمع القمح إلى المخزن فيطهر حينئذٍ الأرض بسيف القضاءِ كما تطهرت أرض كنعان بسيف يشوع، فلا ينجو حينئذٍ أخصامهُ إن كانوا وثنيين أو يهوداً أو مسيحيين لهم صورة التقوى وهم منكرون قوتها. «حتى أننا نحن أنفسنا نفتخر بكم في كنائس الله من أجل صبركم وإيمانكم في جميع اضطهاداتكم والضيقات التي تحتملونها بينةً عَلَى قضاءِ الله العادل أنكم تؤهلون لملكوت الله الذي لأجله تتألمون أيضاً، إذ هو عادل عند الله أن الذين يضايقونكم يجازيهم ضيقاً، وإياكم الذين تتضايقون راحةً معنا عند استعلان الرب يسوع من السماءِ مع ملائكة قوتهِ في نار لهيب، معطياً نقمة للذين لا يعرفون الله والذين لا يطيعون إنجيل ربنا يسوع المسيح الذين سيعاقبون بهلاك أبدي من وجه الرب ومن مجد قوتهِ متى جاءَ ليتمجد في قديسيهِ ويُتعجب منهُ في جميع المُؤمنين» (تسالونيكي الثانية 4:1-10) لا شك أن مزج مبدأ النظام القديم مع النظام الجديد قد سبب أضراراً بليغة جدًّا؛ لأنهُ سهّل الطريق للمسيحيين أن يعيشوا عيشة يهودية وهي بالحقيقة عالمية وملأَ أفواه الكفرة اعتراضات، وأما الذب يتمسك بمبدأي النظامين بدون خلط فهو وحده قادر أن يفصل الحق باستقامة معطياً ما لليهودي لليهودي وما للمسيحي للمسيحي، وهكذا يستد فم الكافر ويصبح المسيحي العالمي بلا عذر. أنهُ ستجرى ضربات عَلَى العالم في المستقبل، ولكن ليس بواسطة الكنيسة، فإن السيف لن يوضع في يدها وهي عَلَى الأرض، نعم سيكون لله أتقياء عَلَى الأرض في ذلك الوقت يستعملهم لإجراءِ بعض ضرباتهِ، ولكنهم ليسوا مسيحيين بل يهوداً. أنظر(مزمور 5:149-9) وأما نحن فنكون حينئذٍ في المجد فإذاً كل من يحوّل الضربات المتنبأُ عنها إلى هيئة روحية زعماً أنها تتم روحياً في انتشار الإنجيل عن يد الكنيسة لا يعرف ما هي الكنيسة ولا ينتبه إلى أقوال الله الصريحة؛ لأنهُ قد أوضح حالة كنيستهِ ودعوتها مصرحاً أيضاً أنهُ مزمع بعد اختطافها إلى المجد أن يسكب ضرباتهِ عَلَى العالم استعداداً لإقامة ملك المسيح ألف سنة، والفرق بين هذا وذلك كالفرق بين حوادث هذا العالم الوقتية والحالة الأبدية.
إن علماء اليهود في أيامنا قد حادوا عن كتبهم وأخذوا يفسرون النبوات مثل تفاسير بعض علماء النصارى، وجميعهم ينكرون إجراء النقمة الإلهية عَلَى العالم، زاعمين أن أمراً كهذا لا يناسب روح عصرنا هذا، تراهم من الفريقين يطمّنون أفكار الناس بكلام ملق فحواهُ أن العالم متقدم في التمدن والتهذيب، وأنهُ مزمع أن يترك الظلم رويداً رويداً بواسطة انتشار الحق، وإذ ذاك لا يقتضي سكب ضربات الله عليه، وقد وقع في هذا الضلال ليسوا الكفرة فقط بل جانب عظيم من المسيحيين المقرين بالوحي؛ والسبب لذلك فتورهم وجهالتهم في الأمور الروحية، إذ لم يعرفوا المقام المسيحي ولا ما هي الكنيسة من جهة كونها شاهدة للمسيح وهو مرفوض من العالم ومرتفع إلى المجد، فنراهم مشتهين الحصول عَلَى الأشياء العالمية غير مبالين بما يليق بالعذراء العفيفة المخطوبة للمسيح، التي ليس لها نصيب في العالم سوى البغض والإهانة، بينما تنتظر قدوم سيدها ليأخذها من هنا إلى مجدهِ فبل ما يضرب الأرض بسيف فمهِ.
«وهؤلاء هم ملوك الأرض الذين ضربهم بنو إسرائيل وامتلكوا أرضهم الخ» (يشوع 12) يتضمن هذا الإصحاح أسماءَ الملوك الذين سقطوا بيد لإسرائيل، ففي العدد 1-6 تذكر أسماءُ الملوك في عبر الأردن نحو شروق الشمس الذين ضربهم بنو إسرائيل وأخذوا أرضهم في زمان موسى. وفي العدد 7-24 أسماءُ الملوك الذين ضربهم يشوع في أرض كنعان بحصر اللفظ، ولكن مع أنهُ ضرب الملوك المذكورين وامتلك أراضيهم بقي جانب كبير من الشعب كما يبان فيما بعد. ولا نعود نسمع الآن فصاعداً أخباراً عن حروب شديدة مثلما صار عقيب دخولهم إلى الأرض، غير أن الكنعانيين الباقين استعملوا وسائط ليجلبوا متاعب عَلَى إسرائيل ويمنعوهم من امتلاك الأرض كلها.
«وشاخ يشوع، تقدم في الأيام، فقال لهُ الرب: أنت قد شختَ، تقدمت في الأيام، وقد بقيت أرض كثيرة للامتلاك»(يشوع 1:13) يبان من هذا أن بني إسرائيل تقاعدوا عن التقدم إلى الأمام، وإذ كان الرب معتنياً بعبدهِ نبههُ عَلَى أن يكمل مأموريتهُ؛ لأنهم بعدما أخذوا من الأرض مقداراً يسعهم أرخوا أيديهم عن الحرب طالبين راحتهم بغضّ النظر عن أمر الرب الذي كان قد أعطاهم الأرض كلها، وأوصاهم أن يمتلكوها عنوةً. ومثلهم مثلنا بحيث أننا بعد التأكيد بخلاص نفوسنا نميل إلى الفتور والكسل في الأمور الروحية، وإذ ذاك نجتهد أن نعيش في حال متوسطة لا حارين ولا باردين متوهمين أن عدوّنا ساكت لكوننا نحن ساكتين، ولكنهُ ليس بساكت؛ لأنهُ إن كنا لا نجاهد ضدهُ لا يزال هو مجاهداً ضدّنا لا بل يكون قد انتصر علينا، والبرهان عَلَى ذلك محبتنا الأولى قد بردت، فيجب أن نجدّ لأجل نمو أنفسنا وأنفس اخوتنا أيضاً؛ لأن ذلك حسب مشيئة إلهنا الذي يريد أننا نهتم في أمور الآخرين. «فإن كل شيءٍ لكم، أبولس أم أبلوس أم صفا أم العالم أم الحياة أم الموت أم الأشياءِ الحاضرة أم المستقبلة، كل شيءٍ لكم، وأما أنتم فللمسيح والمسيح لله» (كورنثوس الأولى 21:3-23) فجميع الأشياء لنا بسبب اقتراننا مع المسيح، وعلينا أن نتصرف فيها كما يليق بورثة المجد، وكلما تمتعنا ببركاتنا الخاصة الروحية ممتدّين إلى ما هو قدام نظير بولس (فيلبي 8:3-21) نشجع اخوتنا أيضاً إذ يرون أعمالنا توافق أقوالنا، عبثاً نحثهم عَلَى الغيرة بينما نحن فاترون أو نقول لهم جاهدوا الجهاد الحسن ونحن متقاعدون.
«هذه هي الأرض الباقية، كل دائرة الفلسطينيين الخ» (يشوع 2:13-7) تنازل الرب من لطفهِ أن يذكر تخوم الأرض حتى الأقسام التي لم يكن إسرائيل قد امتلكوها بعد، وذلك مما يشجعهم عَلَى التقدم بلا خوف لأن الرب لا بد أن يتمم ما وعد ويملكهم ما رسمهُ لهم عَلَى أنهُ كان ينبغي لهم أن يقاتلوا لكي يمتلكوا كنعان خلاف خلاصهم من عبودية مصر فإن الله قاتل عنهم في ذلك الوقت، وفكَّ قيودهم وأنقذهم من أعدائِهم المصريين. ونحن كذلك قد فزنا بالفداءِ الذي بدم المسيح بدون أن نحارب، ولكننا لا نمتلك بركاتنا المكنى عنها بأرض كنعان إلاَّ بعد محاربة، والمسيحي الذي لا يجاهد لا يمتلكها، عَلَى أننا نجاهد روحياً كالذين قد ماتوا وقاموا، مع المسيح، ودائرة بركاتنا واسعة جدًّا، كما لا يخفى إلاَّ عند الذين ليس لهم رغبة في درس كلمة الله، فأوضح لهم الرب تخوم الأراضي التي كان معطيهم إياها ذاكراً أسماءَ الأعداء الذين كان ينبغي لهم أن يطردوهم، وذكر أيضاً قسم السبطين ونصف السبط الواقع شرقي الأردن مع أنهُ كان دون الميراث الخاص الذي كان يمكنهم أن يأْخذوهُ.
«لكن لسبط لاوي لم يعطِ نصيباً، وقائد الرب إله إسرائيل هي نصيبه كما كلمهُ وأما سبط لاوي فلم يعطهِ موسى نصيباً، الرب إله إسرائيل هو نصيبهم كما كلمهم» (يشوع 14:13و33) فيذكر تكراراً سبط لاوي بالنظر إلى كونهِ بدون نصيب ظاهر؛ لأنهُ كان قد خصص السبط المذكور لخدمتهِ بنوع أخص من الآخرين وإذ ذاك كان يجب عليهم أن يتكلوا كل الاتكال عَلَى الذي استخدمهم. كان خدام الرب ممتازين عن غيرهم بحيث لم يكن لهم نصيب سوى الرب وكان عليهم أن يخدموا مذبحهُ ويعلموا اخوتهم منتظرين أن الرب يعتني بهم ويسدُّ احتياجاتهم الزمنية، وإن لم يلقوا اتكالهم عليهِ تماماً فكيف تكون لكلامهم فاعلية في السامعين.
«فهذه هي التي امتلكها بنو لإسرائيل في أرض كنعان التي ملكهم إياها ألعازار الكاهن ويشوع بن نون ورؤَساء آباءِ أسباط بني إسرائيل نصيبهم بالقرعة كما أمر الرب عن يد موسى للتسعة الأسباط ونصف السبط»الخ (يشوع 1:14-5) «القرعة تُلقى في الحضن، ومن الرب كل حكمها» (أمثال 33:16) شاءَ الرب أن يقسم الأرض بالقرعة؛ لأن قسمتها عَلَى هذا المنوال كانت رأساً منهُ ولم يكن فيها أدنى مدخل لحكمة البشر.
«فتقدم بنو يهوذا إلى يشوع في الجلجال وقال لهُ كالب بن يفنة القنزّي: أنت تعلم الكلام الذي كلم بهِ الرب موسى رجل الله من جهتي ومن جهتك في قادش برنيع كنت ابن أربعين سنة حين أرسلني موسى عبد الرب من قادش برنيع لأتجسس الأرض، فرجعت إليهِ بكلام عما في قلبي وأما أخوتي الذين صعدوا معي فأذابوا قلب الشعب، وأما أنا فاتبعت تماماً الرب إلهي فحلف موسى في ذلك اليوم قائلاً أن الأرض التي وطئتها رجلك لك تكون نصيباً ولأولادك إلى الأبد؛ لأنك اتبعت الرب إلهي تماماً، والآن فها قد استحياني الرب كما تكلم هذه الخمس والأربعين سنة من حين كلم الرب موسى بهذا الكلام حين سار إسرائيل في القفر، والآن فها أنا اليوم ابن خمس وثمانين سنة، فلم أزل متشدداً كما في يوم أرسلني موسى، كما كانت قوتي حينئذٍ هكذا قوتي الآن للحرب وللخروج وللدخول، فالآن أعطني هذا الجبل الذي تكلم عنهُ الرب في ذلك اليوم، لأنك أنت سمعت في ذلك اليوم أن العناقيين هناك والمدن عظيمة محصنة، لعلَّ الرب معي فأطردهم كما تكلم الرب، فباركهُ يشوع وأعطى حبرون لكالب بن يفنة مُلكاً، لذلك صارت حبرون لكالب بن يفنة القنزّي ملكاً إلى هذا اليوم؛ لأنهُ اتبع تماماً الرب إله إسرائيل، واسم حبرون قبلاً قرية أربع الرجل الأعظم في العناقيين» (يشوع 6:14-15) فامتثل أولاً أمام يشوع بنو يهوذا الذين كالب بن يفنة أشهرهم، فيذكر يشوع بما وعدهما بهِ الرب حين ذهبا مع الجواسيس الآخرين لتجسس الأرض، ولم يوجد إيمان إلاَّ في يشوع وكالب فقط، ومع أنهما التزما أن يسيروا مع اخوتهما ويشتركا في مشقات البرية لم ينس الرب أمانتهما بل جازاهما أخيراً، ما أجمل كلام كالب! وما أشدّ شهادتهُ لأمانة للرب! الذي حفظهُ حتى لم تزل قوتهُ الشبابية باقية فيهِ بعد مرور خمس وأربعين سنة، فإن قوتهُ كانت حسب إيمانهِ وكان مخلص النية ومتشجع القلب كما في الأيام القديمة، وطلب من يشوع الجبل نفسهُ الذي وعدهُ بهِ موسى، غير خائف بتةً من المدن العظيمة المحصنة قائلاً:«لعلَّ الرب معي فأطردهم كما تكلم الرب» نراهُ متشدداً للحرب كما أنهُ كان صبوراً في متاعب البرية؛ لأن الإيمان يقوينا للصبر ويشجعنا للحرب أيضاً، فنصبر في الضيقات وقت الضيق ونجاهد الحسن وقت الجهاد، وعَلَى ذلك قول الرسول:«متقوين بكل قوة بحسب مجدهِ لكل صبر وطول أناة بفرح» (كولوسي 11:1) هذا من جهة الصبر، وأما من جهة الشجاعة الروحية قولهُ: «أخيراً تقوُّوا في الرب وفي شدة قوتهِ، البسوا سلاح الله الكامل، لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس» (أفسس 10:6و11) فقول كالب: «لعل الرب معي» لا ينتج من الشك أو من ضعف الإيمان، بل العكس يظهر عدم ثقتهِ بذاتهِ واتكالهُ التام عَلَى أمانة الرب، إذ كان واثقاً أن الرب صادق في أقوالهِ وساهر عَلَى إتمام مواعيده للمتكلين عليهِ. «صالح هو الرب، وحصن في يوم الضيق، وهو يعرف المتوكلين عليهِ» (ناحوم 7:1) ونرى كالب في كل ذلك مثالاً لنا بحيث أنهُ يجب علينا أن نعتبر النصيب الموعود بهِ من الرب، ونجاهد لامتلاكهِ غير مبالين بالصعوبات مهما عظمت قدامنا. كان العناقيون في نصيب كالب ومدنهم محصنة، حتى الخبر عن ذلك أذاب قلوب بني إسرائيل في البرية، وحملهم عَلَى أن يحاولوا الرجوع إلى مصر، ولكن تقدم كالب وطلب من يشوع هذه المقاطعة نفسها، قاصداً أن يطرد أولئك الجبابرة باسم الرب، كان رجلاً متواضعاً، أو بالأحرى أميناً وشجيعاً، لم يمتنع عن الحرب وقت الحرب، غير أنهُ حارب لكي يحصل عَلَى الراحة.
«واستراحت الأرض من الحرب» (يشوع 15:14) قد كرر الوحي هذا القول وكان ممكناً لهم أن يرتاحوا عن الحرب قبلاً لو تقوّوا بالإيمان، ولكنهم لم يعملوا ذلك، فطالت عَليهم مدة الحرب؛ لأن الجبانة والتقاعد والخوف عوضاً عن أن تحصل لنا الراحة من أعدائنا الروحية إنما تطيل علينا وقت الجهاد؛ لأن عدم الإيمان لا ينفعنا أمام الله الذي يريد أن يبدّد أعدائنا كما تدفع الريح الدخان، ولكن إجابة لإيماننا أنظر (عبرانيين 11)
«وكانت القرعة لسبط بني يهوذا حسب عشائرهم إلى تخم أدوم الخ» (يشوع 1:15-61) نرى المقام الأول ليهوذا في قسمة الأرض، مع أن رأوبين كان البكر ولهُ الحقوق الأولى حسب الطبيعة، ولكن رفضتهُ النعمة الإلهية عن هذا المقام واختارت يهوذا ليكون السبط الملكي. أنظر كلام يعقوب (تكوين 49) كان ملك يهوذا واسعاً جداً كما يبان من هذا الإصحاح عَلَى أن وقع فيهِ نصيب كالب ونصيب شمعون أيضاً كما سيأْتي، وأما كالب فالتزم أن يطرد بني عناق واحداً فواحداً؛ لأن الإيمان لا يغنينا عن الجهاد ولا يحملنا إلى احتقار قوة أعدائنا كأن غلبتنا عليهم متوقفة عَلَى قوتنا وحكمتنا، والجندي الصالح كريم أيضاً لنحو الآخرين كما يبان أيضاً مما عمل كالب لابنته عكسة.
«وخرجت القرعة لبني يوسف من أردن أريحا إلى ماءِ أريحا نحو الشروق الخ» (يشوع 1:16-10) فيذكر هنا قسم بني يوسف، قابل مع (تكوين 13:48-22) «ولكنهم لم يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر، فسكن الكنعانيين في وسط أفرايم إلى هذا اليوم عبيداً تحت الجزية» (يشوع 10:16) فيظهر هنا عدم أمانتهم، فإنهم قادرين عَلَى طرد أعدائهم ولم يفعلوا ذلك. تقدم قولهُ عن بني يهوذا من جهة عدم قدرتهم إذ قال: «وأما اليبوسيين الساكنون في أورشليم لم يقدر بنو يهوذا عَلَى طردهم، فسكن اليبوسيون مع بني يهوذا في أورشليم إلى هذا اليوم» ( يشوع 63:15) لا شك أن عدم قدرتهم نتجت من عدم إيمانهم. وأما بنو يوسف فكانوا قادرين ولم يريدوا، وعدم الإرادة أشر من عدم القدرة، غير أن هذا وذلك كليهما من أثمار عدم الإيمان، ولم يرد بنو يوسف أن يطردوا الكنعانيين من وسطهم حوَّلوا عدم أمانتهم إلى مكسب، إذ أخذوا منهم الجزية.
«وكانت القرعة لسبط منسى الخ» (يشوع 1:17-18) فيستمر الكلام عن قسم بني يوسف مع ذكر قسم بنات صلفحاد، ونسمع هنا أيضاً عن عدم القدرة الناتجة من عدم الإيمان إذ قيل: «ولم يقدر بنو منسى أن يملكوا هذه المدن، فعزم الكنعانيون عَلَى السكن في تلك الأرض» (يشوع 12:17) لو كان في بني منسى إيمان مثل كالب لقدروا عَلَى طرد الكنعانيين، «وكان لما تشدد بنو إسرائيل أنهم جعلوا الكنعانيين تحت الجزية ولم يطردوهم طرداً» (يشوع 13:17) يبان هنا أن لعدم القدرة وعدم الإرادة مصدراً واحداً في أمور الله وهو عدم الإيمان وعدم الطاعة لكلمتهِ، فإن هؤلاءِ لم يقدروا في الأول، ولما صاروا قادرين لم يريدوا، ولكنهم حوَّلوا عدم أمانتهم إلى مكسب نظير اخوتهم المتقدم ذكرهم، ومثلهم مثلنا فعلينا أن نحترز جدًّا من التقاعد الناتج من إهمال كلمة الله، ولكن الذين هم غير أمناءِ لا يكتفون بما عندهم؛ لأن عدم الإيمان يأْتي بأثمار مثلهُ، منها عدم القناع. «وكلم بنو يوسف يشوع قائلين: لماذا أعطيتني قرعة واحدة نصيباً وأنا شعب عظيم؟ لأنهُ إلى الآن قد باركني الرب»(يشوع 14:17) فكان يجب عليهم أن يمتلكوا نصيبهم بتمامهِ حسب قول الرب قبل أن يطلبوا أكثر، ولكن الحياء والحشمة ليست من مزايا الطامعين، فردّ عليهم يشوع بحكمة، إذ جاوبهم حسب كلامهم قائلاً: «إن كنت شعباً عظيماً فاصعد إلى الوعر، واقطع لنفسك هناك في أرض الفرزيين والرفائيين إذ ضاق عليك جبل أفرايم. فقال بنو يوسف: لا يكفينا الجبل، ولجميع الكنعانيين الساكنين في أرض الوادي مركبات حديد» (يشوع 14:17-16) فأظهروا جبانتهم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق