الخميس، 8 مارس 2012

متي24

الإصحاح الرابع والعشرون

النبوة بخراب الهيكل

(عدد 1، 2؛ مرقس 1:13، 2؛ لوقا 5:21، 6)

«ثم خرج يسوع ومضى من الهيكل. فتقدم تلاميذه لكي يروه أبنية الهيكل فقال لهم يسوع أما تنظرون جميع هذه؟ الحق أقول لكم أنه لا يترك ههنا حجر على حجر لا ينقض» (عدد 1، 2) قد صار ذلك الهيكل الجميل مغارة لصوص وتمكن فيه سلطان قتلة أنبياء الله فتركه الرب خرابًا إذ لم يعد هو بيت أبيه بل بيتهم هم، على أن قلوب التلاميذ لم تزل مُتعلقة به. ولما تقدموا إلى سيدهم لكي يروه أبنيته العظيمة عاد فأنبأهم بخرابه. ونرى فيهم كم هو شديد ذلك الميل الطبيعي في قلب الإنسان للأبنية الدينية الفخمة والعبادة المصحوبة بالاحتفالات الجمهورية! كان التلاميذ يُحبون المسيح ولكنهم كانوا مُفتخرين بالهيكل أيضًا. وما كان أقل تأثرهم بما قال المسيح سابقًا عن خرابه! وكان من الأمور الجائزة لليهودي، لا بل والواجب عليه أن يطلب سلام أورشليم، والحضور إلى هيكل الله. ولكنه صار ضروريًا لتلاميذ المسيح المرفوض أن يكفوا عن أفكارهم القديمة اليهودية ويتعلقوا كل التعلُق بمركزهم الجديد الذي هو شخص الرب الذي قام مقام الهيكل.

سؤال التلاميذ الثُلاثي ورد المسيح عليهم بخلاصة للموضوع كله مع إشارة

خاصة إلى «مُبتدأ الأوجاع»


«وفيما هو جالس على جبل الزيتون، تقدم إليه التلاميذ على انفراد قائلين قُل لنا مَتَىَ يكون هذا؟ وما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر؟».
الآن قد انتبه التلاميذ إلى بعض كلمات الرب في شأن خراب الهيكل، وإتيانه ثانيةَ. فسأله أربعة منهم (مرقس 3:13) على انفراد ثلاثة أسئلة: الأول- مَتَىَ يكون هذا، أي خراب الهيكل. الثاني- ما هي علامة مجيئك؟ الثالث- ما هي علامة انقضاء الدهر؟؟ فربطوا بين الثلاثة كأنها حادثة واحدة ذات ثلاثة أوجه.
ولا يُخفى أن مرقس ولوقا يدرجان فقط السؤال الخاص بخراب الهيكل فينبغي أن لا نرتاب البتة بأن الوحي قد ألهم كل واحد من الثلاثة البشيرين في إدراج كل ما أدرج وفي عدم إدراج كل ما عدل عن إدراجه.
ولا يفوتنا أيضًا أن المسيح لم يُكلم التلاميذ في هذا الفصل كمسيحيين بل كإسرائيليين إذ كانت كل أفكارهم يهودية مُتعلقة بالنظام القديم وانتظار الملكوت على الأرض، لذلك نرى الرب يُخاطبهم كمن يُمثلون البقية الإسرائيلية التقية العتيدة أن تؤمن به بعد اختطاف الكنيسة.
«فأجاب يسوع وقال لهم انظروا لا يضلكم أحد. فإن كثيرين سيأتون باسمي قائلين أنا هو المسيح ويضلون كثيرين وسوف تسمعون بحروب وأخبار حروب، انظروا لا ترتاعوا، لأنه لا بد أن تكون هذه كلها. ولكن ليس المُنتهى بعد، لأنه تقوم أُمة على أُمة ومملكة على مملكة وتكون مجاعات وأوبئة وزلازل في أماكن. ولكن هذه كلها مُبتدأ الأوجاع. حينئذ يُسلمونكم إلى ضيق ويقتلونكم وتكونون مُبغضين من جميع الأُمم لأجل اسمي. وحينئذ يعثر كثيرون ويُسلمون بعضهم بعضًا ويُبغضون بعضهم بعضًا. ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيرون. ولكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين. ولكن الذي يصبر إلى المُنتهى فهذا يخلُص، ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأُمم، ثم يأتي المُنتهى» (عدد 4-14).
كان الرب قد صرح بخراب مُركز عبادة اليهود وزوال كل ما كانت قلوب التلاميذ مُتعلقة به على الأرض فأخذت كلماته الخطيرة توقظهم من الغفلة الشديدة. وحملتهم على أن يطلبوا منه إيضاحًا أكثر لما نطق به باختصار. بل ونفس الظروف التي كانوا فيها جعلت تأثيرًا زائدًا لما سمعوا إذ كانوا جالسين على جبل الزيتون تجاه الهيكل المكشوف بكل جماله قدام نظرهم. إني لا أقول أنهم فهموا معاني أسئلتهم لأنه من الأمور الواضحة أنهم لم يزالوا على غاية الجهالة قبل صعود الرب إلى السماء وحلول الروح القُدس. فشرع الرب يُجيب على أسئلتهم ليس بحسب أفكارهم بل بحسب معرفته الكاملة كالنبي العظيم الذي أقامه الله لشعبه. ففي جوابه أول كل شيء حذرهم من التّزعزع عند حدوث الانقلابات العتيدة أن تقترن بتتميم هذه النبوات.
«انظروا، لايضلكم أحد لأن كثيرين سيأتون باسمي قائلين، أنا هو المسيح ويضلون كثيرين» أي أنهم يتخذون كل واحد اسم المسيح مُدعيًا أنه هو المُتنبأ عنه. وهذا تم جُزئيًا (يوحنا الأولى 18:2)، قبل خراب الهيكل وأورشليم في سنة 70م على يد الجنود الرومانيين كما سيتم مُستقبلاً في الصد الأكبر للمسيح أو المسيح الكذاب (يوحنا الأولى 22:2؛ تسالونيكي الثانية 6:2-8).
«وسوف تسمعون بحروب وأخبار حروب. انظروا لا ترتاعوا, لأنه لا بد أن تكون هذه كلها، ولكن ليس المُنتهى بعد» هذا ما سيكون بعد الاختطاف (رؤيا 2:6-4). ولكن لا يُخفى أن حوادث مُكدرة كهذه صارت أيضًا ما بين صعود المسيح وخراب أورشليم عن يد الجنود الرومانيين.
«لا ترتاعوا لأنه تقوم أُمة على أُمة ومملكة على مملكة. وتكون مجاعات وأوبئة وزلازل في أماكن» هذا أيضًا سيكون بعد اختطاف الكنيسة (حجي22:2؛ رؤيا 5:6، 6، 12) ولكني أعود وأقول أنه من الأمور المعروفة أن حوادث كهذه تمت أيضًا في زمان خراب أورشليم على يد الرومان غير أن الرب هنا لا يذكر هذا الخراب صريحًا لأنه إنما ينظر هنا إلى أحوال الأمة اليهودية من ذلك الوقت إلى نهاية تأديبات الله لها في المُستقبل. وأما في لوقا فيذكر خراب أورشليم صريحًا مع العلامة التي أُعطيت لتدلهم عل ذلك للفرار منها (لوقا 20:21-24). غير أننا لا نقدر أن نبحث الآن في كلامه في شأن هذا الموضوع، لأن لا نفع لنا أن نتبع كلام كل من الثلاثة البشيرين في محله الخاص.
«ولكن هذه كلها مُبتدأ الأوجاع» أي للأُمة اليهودية لأن الله ابتدأ وقتئذ يؤدبها تأديبات خاصة لأجل رفضها المسيح إذ «غضب الملك وأرسل جنوده وأهلك أولئك القائلين وأحرق مدينتهم» (إصحاح 7:22). ولكن لم ينته أمرهم بتلك الحادثة ولو أنها كانت عظيمة جدًا كقول لوقا «ويقعون بفم السيف ويُسبون إلى جميع الأمم. وتكون أورشليم مدوسة من الأمم حتى تكمُل أزمنة الأمم» (لوقا 24:21). غير أن متَّى لا يذكر تشتتهم بين الأمم ولا أزمنة الأمم لأنه إنما يتتبع الحوادث المُتصلة بالهيكل وأورشليم. فبحسب قول هذا البشير قد ابتدأت أوجاعهم بخراب الهيكل ولكنها تنتهي بإقامة رجسة الخراب فيه فيما بعد كما سنرى.
«حينئذ يُسلمونكم إلى ضيق ويقتلونكم وتكونون مُبغضين من جميع الأمم لأجل اسمي وحينئذ يعثر كثيرون ويُسلمون بعضهم بعضًا ويُبغضون بعضهم بعضًا» سبق فحذرهم من جهة الأسباب التي من شأنها أن تُزعزعهم من الخارج. وهنا يُنبئهم عن حدوث أسباب مُكدرة أخرى فيما بينهم في الداخل إذ يعثر كثيرون منهم ويرتدون بسبب الاضطهادات العنيفة. ثم يُبغضون الذين كانوا سالكين معهم قبلاً ويُسلمونهم إلى المجالس والحُكام. (قابل هذا مع عبرانيين 25:10-31) حيث نرى أن مَنْ تزعزع في الإيمان ترك الاجتماع وتحول إلى خصم. وكما حدث هذا قبل الخراب السالف للهيكل هكذا سيحدث بعد اختطافنا في زمان المسيح الكذاب.
«ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيرين» الأنبياء الكذبة هنا هم المُعلمون المُضلون وليسوا هم القائلين أنا هو المسيح، المُشار إليهم في (عدد 5).
«ولكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين» نرى في (أعمال الرسل 20:21، 21) أن ربوات من اليهود اعترفوا بالمسيح وكانوا لا يزالون غيورين للناموس ولما طال الوقت وتكاثرت الضيقات على أُمتهم ولم يروا نجاةً تُزعزع كثيرون منهم وبردت محبتهم للمسيح وارتدوا عنه لأن قلوبهم كانت مُتعلقة بالأرض ولم يعرفوا المسيح المُرتفع إلى المجد ولا دعوة المؤمنين به وقت غيابه فكانت حالتهم كالمزروع في الأماكن المُحجرة الذي جف عند خيبة الآمال الجسدية (إصحاح 20:13، 21). وهكذا صار عند خراب الهيكل وأورشليم في ذلك الوقت، وهكذا سيصير أيضًا في المُستقبل (دانيال 10:12) لأنه ينبغي أن نُلاحظ كل المُلاحظة أن كلام الرب هنا يُماثل كلامه في (إصحاح 10) حيث رأينا انه ابتدأ بما يُناسب إرسالية التلاميذ أولاً ثم تقدم إلى ذكر ما يتم لأمثالهم عند المنتهى.
«ولكن الذي يصبر إلى المُنتهى فهذا يخلص» راجع (إصحاح 22:10). لفظة «المُنتهى» تذكر بالارتباط مع تاريخ إسرائيل. فهي تُشير إلى وقت مُعين ومعروف في تاريخ إسرائيل. فلا يجوز لنا أن نحيد عن معناها هذا. صحيح أن المبدأ الذي تتضمنه العبارة كلها يُناسب المُعترفين باسمه في كل زمان من حيث الثبات على اعترافهم خصوصًا في وقت الضيق والاضطهاد. فكان يجب على جميع التلاميذ الإسرائيليين أن يحتملوا الضيقات المُتعلقة بانقلاب نظامهم القديم. فإن كل من ارتد في هذه الظروف عن الإيمان المسيحي برهن على أنه تلميذ بالاسم فقط ولم تبق له سوى الدينونة المخيفة (انظر عبرانيين 4:6-8؛ 26:10-31). ومع أن ذلك كله صحيح إلا أني أقول أن الرب يُشير بكلمة «المُنتهى» إلى مُنتهى أوجاع إسرائيل كأُمة، ونجاة البقية التقية الثابتة إلى أن يظهر هو بالقوة لينقذهم. ونراه هنا ينتقل بنا من الأحوال التي اتصف بها خراب الهيكل وأورشليم سابقًا عن يد الرومانيين إلى أحوال أخرى نظيرها في المُستقبل.
«ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأُمم. ثم يأتي المُنتهى». بشارة الملكوت هي المُناداة بسيادة المسيح. لا شك أنه يجب أن نُنادي بذلك في كل حين (أعمال الرسل 25:20) ولكنه مذكور هنا بالارتباط مع الكرازة بعد اختطاف الكنيسة إلى جميع الأُمم شهادة لهم قبل المُنتهى. والكرازة بهذه البشارة الملكية ستتم على يد أُمناء اليهود في ذلك الوقت (رؤيا 6:14، 7).
«ثم يأتي المُنتهى» لنُلاحظ جيدًا أن خراب أورشليم قديمًا لم يكن هو المُنتهى بل مُبتدأ أوجاع إسرائيل. ولما أشار الرب إلى ذلك قال صريحًا «ولكن ليس المُنتهى بعد» (عدد 6) وكذلك في (مرقس 7:13؛ لوقا 9:21). أني مُعتقد بأن خرابها عن يد تيطس القائد الروماني كان حادثة عظيمة الأهمية في طرق الله مع إسرائيل، ولكنه لم يكن الكل. معلوم أن ذلك القائد الشهير لم يقصد حرق الهيكل ولكن الله قصده وأكمله رغمًا عن اجتهاد تيطس في تلافيه لأنه تعالى أراد أن يُتمم القول «لا يُترك حجر على حجر لا ينقض». وإن قيل أن تلك الحادثة هي المُنتهى. فيا ترى مُنتهى أي شيء؟ لأنها لا أنهت أوجاع أُمة إسرائيل ولا أنهت الاضطهادات التي كانت على المسيحيين. فإن هذه الاضطهادات للمسيحيين قد تكاثرت جدًا بعد خراب أورشليم إلى وقت الإمبراطور قُسطنطين في بداءة القرن الرابع. وأما تلك الأوجاع للأمة الإسرائيلية فلا زالت باقية إلى الآن.

رد المسيح على سؤالهم «مَتَىَ يكون هذا؟» بإشارته

إلى «الضيقة العظيمة» أو «الوحش والنبي الكذاب»

(عدد 15-26؛ مرقس 14:13-23)

«فمَتَى نظرتم رجسة الخراب التي قال عنها دانيال النبي قائمة في المكان المُقدس ليفهم القارئ. فحينئذ ليهرب الذين في اليهودية إلى الجبال. والذي على السطح فلا ينزل ليأخذ من بيته شيئًا. والذي في الحقل فلا يرجع إلى ورائه ليأخذ ثيابه. وويل للحبالى والمُرضعات في تلك الأيام. وصلوا لكي لا يكون هربكم في شتاء ولا في سبت. لأنه يكون حينئذ ضيق عظيم لم يكن مثله منذ ابتداء العالم إلى الآن ولن يكون. ولو لم تقصر تلك الأيام لم يخلص جسد ولكن لأجل المُختارين تقصر تلك الأيام» (عدد 15-22).
«فمَتَى نظرتم رجسة الخراب» انه من الحقائق المؤكدة أن الرب في هذا الفصل يُشير إلى الحوادث التي ستتم في وقت المُنتهى أي في النصف الأخير للأسبوع النبوي الذي تنبأ عنه دانيال. ورجسة الخراب عبارة عن إقامة عبادة الأصنام في الهيكل الذي سينيه اليهود بعد رجوعهم إلى أرضهم (تسالونيكي الثانية 3:2، 4؛ رؤيا 1:11، 2) والرجسة هي العبادة الصنمية. وتُضاف إليها هنا لفظة الخراب لأنها هي التي توجب الخراب. لا أقدر أن أبحث في نبوات دانيال في شأن هذا الموضوع لأن ذلك يقتضي وقتًا طويلاً. غير أني أقول انه واضح من كلامه في (إصحاح 24:9-27) أن الله قضى على شعبه مدة مُعينة قبل أن يحصلوا على البركة والراحة. ونرى أن الأهمية العظمى هي لقطع مسيحهم دون أن يأخذ شيئًا من المملكة على الأرض وبذلك تم تسعة وستون أسبوعًا من المُدة المذكورة وبقى أسبوع واحد عبارة عن سبع سنين. ثم يذكر النبي في (عدد 26) خراب المدينة والقدس أي الهيكل، الخراب الذي صار بواسطة الرومانيين وبعد ذلك يُشير إلى مدة غير محدودة تتصف بحرب وخرب. ثم في (عدد 27) يُشير إلى «رئيس آت» ولا شك عندي أنه الوحش الذي سبق وأشار إليه هو نفسه في (إصحاح 7)، وهو الوحش المُتنبأ عنه في سفر الرؤيا (إصحاح 13) وعند إتيانه إلى اليهود يكون عهد بينه وبينهم لمدة أسبوع واحد أي سبع سنين. وهذا هو الأسبوع الباقي من السبعين أسبوعًا الأصلية. وفي نصف هذه المدة يبطل الرئيس الآتي الذبيحة والتقدمة أي عبادة اليهود الطقسية لله في هيكلهم ويُقيم بدلها عبادة الأصنام، وفي نهايته يكون ظهور المسيح لبركتهم الأبدية (دانيال 24:9؛ 7:12).
قد قال البعض أن قول الرب عن رجسة الخراب في المكان المُقدس يُشير إلى حضور الجنود الرومانية إلى أورشليم والهيكل تحت قيادة تيطس المذكور آنفًا وان الراية الرومانية التي كانت تحمل صورة النسور هي الرجسة. فلما نظرها المسيحيون في المكان المُقدس أخذوها علامة من المدينة. فأقول:
أولاً- إن إحاطة أورشليم بالجيوش (لوقا 20:21) كانت هي العلامة للمؤمنين في ذلك الوقت لا إقامة رجسة الخراب في الهيكل أو في المكان المُقدس. معلوم أن القائد الروماني حاصر أورشليم أولاً. ثم بلغهُ الخبر بفتنة حدثت في جهة أخرى. فالتزم أن يتنحى عن أورشليم إلى حين فحسب الجيش ليخمد الفتنة. فعند ذلك انتهز جميع المسيحيين الفرصة للفرار إذ عرفوا من كلام الرب أن إحاطة المدينة علامة اقتراب خرابها. وأما اليهود الغير المؤمنين فاستنتجوا خلاف ذلك تمامًا إذ ظنوا أن الرومانيين قد ارتدوا عنهم خوفًا ولا يتجاسرون على الرجوع. فمكثوا في المدينة مُعتزين ومُفتخرين بقوتهم ولم يمضِ زمان طويل حتى رجع تيطس وحاصرهم ولم ينفك عنهم حتى أكمل عمله.
ثانيًا- ظهور الراية الرومانية خارج أورشليم أو داخلها لم يكن من الأمور الغريبة لليهود حتى يعدّ علامة. لأن الرومانيين كانوا قد فتحوا أورشليم واليهودية من زمان، وكان بيلاطس الوالي الروماني هناك وقت المسيح، وهو الذي حكم عليه بالموت. وكان عنده جيش روماني داخل المدينة مع أعلامهم المعروفة بعلامة النسور الرومانية. وكثيرًا ما قام اليهود ضد هذه الدولة لكي يتخلصوا من سلطتها ولم يقدروا وكان عصيانهم هو السبب الذي أوجب حضور تيطس في الوقت الذي نتكلم عنه.
ثالثًا- الراية الرومانية لم تقم في المكان المُقدس الذي هو الهيكل وقت مجيء تيطس. لأنه فتح ثغرة في سور المدينة بعد قتال عنيف جدًا. وظل اليهود يُقاومونه أشد مُقاومة ولما ارتد بعضهم إلى الهيكل مُدافعين عنه ببسالة تشبه الجنون أخذ بعض أفراد الجيش الروماني يشعلونه بالنار ضد أوامر قائدهم الذي كان قد أصدر أمرًا مُشددًا بحفظه كزينة أو تُحفة بحسب عادة الرومانيين. فلما بلغهُ انه يحترق سعى لإنقاذه ولم يقدر فإذًا الراية الرومانية لم تظهر في المكان المقدس كعلامة لتلاميذ المسيح وليست هي رجسة الخراب التي يُحسب قيامها في المكان المُقدس علامة للفرار من المدينة. لوقا يُشير إلى هروب المسيحيين قبل حضور تيطس (لوقا 20:21-23). وأما مَتَّى فيذكر هروبًا آخر عند المُنتهى. ولوقا يقول عن ذلك الوقت «انه يكون ضيق عظيم على الأرض وسخط على هذا الشعب» وكان كذلك. ولكنه لا يقول كمَتَّى أنه «ضيق عظيم لم يكن مثله ولن يكون» لا يُخفى انهما كلاهما يستعملان كلامًا واحدًا في بعض الحوادث.
ولكن يوجد بعض اختلافات مهمة بينها نفعل حسنًا إذا انتبهنا إليها. فيتفقان في ما يدل على الهروب بعجلٍ، وعلى الويل للذين أعاقهم سبب اليهود الأتقياء زمان الوحش والنبي الكذاب فلنلاحظ خصوصًا ما يتصف به الضيق انه «لم يكن مثله منذ ابتداء العالم ولن يكون» ونقابله مع (دانيال 1:12) فإنه يُظهر أن النبي دانيال يتكلم عن الضيق الأخير لشعبه، ولكنهم سينجون فإن ميخائيل الرئيس العظيم يقوم لأجلهم. فالواضح:
أولاً- إن هذا لم يتم وقت خراب أورشليم على يد تيطس. لأن شعب دانيال لم ينج في ذلك الوقت أُسلموا إلى أيدي أعدائهم تمامًا ولا يزالون هكذا إلى الآن.
ثانيًا- الضيق المذكور فريد لم يكن مثله بحسب دانيال وقد أضاف الوحي إلى ذلك في مَتَّى ومرقس «ولن يكون». فالضيق الذي من هذا القبيل لا يحدث إلا مرة واحدة. وفضلاً عن ذلك يقرن الوحي معه خلاص إسرائيل منه في جميع المواضع التي ورد فيها هذا الكلام بعد اجتيازه فيه 1260يومًا (دانيال 7:12، رؤيا 2:11، 3؛ 5:13). انظر أيضًا قوله «آه. لأن ذلك اليوم العظيم وليس مثله وهو وقت ضيق على يعقوب ولكنه سيخلص منه. ويكون في ذلك اليوم، يقول رب الجنود، أني اكسر نيره عن عنقك واقطع ربطك ولا يستعبدك بعد الغرباء» (قابل إرميا 5:30-8 مع زكريا 2:14، 3).
«ولو لم تقصر تلك الأيام لم يخلص جسد. ولكن لأجل المختارين تُقصر أيام ضيق إسرائيل يصير بحسب قصد الله إذ يحصره في الوقت المحدد له وهو ثلاث سنين ونصف. لأنه لو طالت مدة الضربات العتيدة أن تنسكب عليهم لا يمكن أن يبقى أحد حيًا. ولا حاجة لي أن أقول للقارئ المسيحي إن قول الرب «لم يخلص جسد» لا يعني خلاص النفوس ولا مدخل له في حالتنا نحن كمسيحيين الآن لأن الضيق هو نصيبنا المعهود وهو نافع جدًا لنا روحيًا (انظر يوحنا 33:16؛ رومية 3:5؛ كورنثوس الثانية 11:4؛ بطرس الأولى 12:4-19؛ 8:5-10). فهو إذًا يخص إسرائيل في ظروفه الأرضية، في زمانه العتيد.
«ولكن لأجل المختارين تُقَصر تلك الأيام». المختارون هنا هم أتقياء اليهود الذين في ذلك الوقت سيرفضون السجود للوحش والنبي الكذاب. فالواضح إن كل من يفسر نبوة الرب هذه ويطلقها على الكنيسة المسيحية فهو لم يتعلق بعد ما هي دعوتنا الخاصة من حيث أننا قد صرنا متحدين مع المسيح في المجد ودُعينا إلى الذهاب إليه هناك. فالحروب وأخبار الحروب والحوادث التي تدل على اقتراب المنتهى والهرب في شتاء أو في سبت، والوعد بتقصير أيام الضيق العظيم المتنبأ عنه، هذه وكل ما شاكلها، ليست لنا كمسيحيين، لأننا ننتظر الرب من السماء ليأخذنا إليه، ومهما حدث لنا من الضيق إنما يُنقينا روحيًا ولا يستطيع أن يقطع سبيلنا أو يحرمنا من نصيبنا.
«حينئذ إن قال لكم أحد هوذا المسيح هنا أو هناك فلا تصدقوا. لأنه سيقوم مُسحاء كذبة وأنبياء كذبة ويعطون آيات عظيمة وعجائب حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضًا. ها أنا قد سبقت وأخبرتكم. فإن قالوا لكم ها هو في البرية فلا تخرجوا. ها هو في المخادع فلا تصدقوا» (عدد 23-26). حينئذ أي قبيل المنتهى حين يكون اليهود منتظرين حضور مسيحهم تعظم بينهم قوة الشيطان للغش والخداع فإنهم يكونون في تجربة شديدة أن يقبلوا من يأتيهم مدعيًا أنه هو المتنبأ عنه، الذي ينقذهم من شدائدهم ويريحهم من أعدائهم. سيقوم بينهم غواة كثيرون. ويجب أن نلاحظ كلام الرب عنهم أنهم يعطون آيات عظيمة وعجائب. لا شك أن واحدًا منهم سينجح أخيرًا ويفوق جميع رفقائه ويفوز بالقبول عند جميع اليهود عدا المختارين الذين سيحفظهم الله. وأما من جهة الآيات العظيمة والعجائب التي سَتُجرى بقوة الشيطان في ذلك الوقت (انظر تسالونيكي الثانية 9:2؛ رؤيا 13:13-16؛ 20:19) وان قيل أن هذا قد تم في المضلين الذين قاموا بين اليهود قبل خراب أورشليم. أقول لا. لأنه لم يرد هذا عنهم أن واحدًا منهم صنع آيات عظيمة وعجائب. راجع كلام الرب عنهم (عدد 5) فإنه لا ينسب لهم صنع العجائب ولا يلقبهم مسحاء كذبة مع أن كثيرين ادعوا بأنهم مسيح اليهود. لا شك أنهم سببوا تزعزعًا. وكان المؤمنون في تجربة أن يرتاعوا وكثيرون من اليهود الغير مؤمنين قد انخدعوا بهم وهاجوا ضد الرومانيين لهلاك ذواتهم. ولكن القوة الشيطانية لصنع العجائب لم تظهر عن يدهم.
«ها أنا سبقت وأخبرتكم» سيكون البعض من اليهود في أيام المسيح الكذاب متمسكين بكلمة الله وشهادة يسوع المسيح (رؤيا 9:6؛ 17:12) وهؤلاء في ذلك الوقت سيعتبرون أقوال المسيح النبوية هذه مساعدة على حفظهم من أضاليل الشيطان التي سَتَعظُم إلى هذا المقدار حتى أنها تُضل المختارين لو أمكن.
فائدة: مدة السبع السنين المذكورة في النبوات حين يكون اليهود في أرضهم تنقسم إلى نصفين يتميز أحدهما عن الآخر ففي نصفها الأول تكون شهادة في أورشليم ومدن إسرائيل من اليهود الأتقياء المتمسكين بأقوال الوحي والذين لم ينقادوا للكفر المستولي على الآخرين على يد المسيح الكذاب فيكون عليهم اضطهاد ويقتل أُناس منهم وأما عند بداءة النصف الثاني فيتمكن سلطان الوحش والنبي الكذاب وحينئذ تنتهي هذه الشهادة العامة بفرار المختارين من أورشليم واختبائهم (انظر رؤيا 12) حيث يعبر عنهم بالمرأة التي ستهرب ثلاث سنين ونصف من وجه الاضطهاد الشديد. وهؤلاء يكونون هم الأمة الإسرائيلية حقيقة أمام الله وليس الآخرون سوى جثة (عدد 28) ولكن في هذه المدة نفسها تكون شهادة أخرى في أورشليم (عدد 10-13) عن يد الشاهدين اللذين سيحفظهما الله كما حفظ موسى في مصر وإيليا في إسرائيل وتكون شهاداتهما شهادة ممتازة إذ أنهما يقفان أمام رب الأرض ويشهدان ضد اليهود والنصارى الذين سيكونون جميعًا وقتئذ في حالة الارتداد والعداوة للوحش والنبي الكذاب ويزدادون في الشر إلى أن يكلموا إثمهم بقتل الشاهدين وحينئذ يظهر الرب (رؤيا 1:11-18).

ردّ المسيح على سؤالهم

«ما هي علامة مجيئك، وانقضاء الدهر؟ »

(عدد 27-31؛ مرقس 24:13-37؛ لوقا 25:21-36)

«لأنه كما البرق يخرج من المشارق ويظهر إلى المغارب هكذا يكون أيضًا مجيء ابن الإنسان. لأنه حيثما تكن الجثة فهناك تجتمع النسور» (عدد 27، 28).
لا يُخفى أن أتقياء اليهود يكونون منتظرين حضور المسيح إليهم بحسب النبوات القديمة التي تذكر وقوف قدميه على جبل الزيتون وضربه أعدائهم وإنقاذ أورشليم (زكريا 3:14-11؛ أعمال الرسل 9:1-12) فيحتاجون غاية الاحتياج إلى إنذارات كهذه لكي لا يصدقوا من قال هاهو قد حضر في البرية أو في المخادع لأنه ينبغي لهم أن يتعلموا جيدًا انه يقدم عليهم من السماء مثل البرق أي علنًا (لا سرًا كما في اختطاف المؤمنين) فلذلك يثبتون على إيمانهم إلى أن يظهر لهم بغتة من السماء. وعندئذ يضرب أعدائهم بغتة.
«لأنه حيثما تكون الجثة فهناك تجتمع النسور» فستكون ضرباته كانقضاض النسور على الجثة. والجثة عبارة عن الأثمة خصوصًا الأمة اليهودية المذنبة، والنسور كناية عن ضربات الله وأدوات نقمته المغيرة عليهم، فهو إذًا لن يخطئ الهدف (انظر عدد 40، 41) فأن دينونته ستكون من الدقة بحيث تميز بين أكثر الناس قربًا والتصاقًا لبعضهم غير أن الرب لم يصل بعد في كلامه إلى موضوع مجيئه فإنه إنما أشار إليه هنا باختصار ليخبرهم بكيفيته متى جاء لكي يصونهم من ضلال على كيفية أخرى.
«وللوقت بعد ضيق تلك الأيام تُظلم الشمس والقمر لا يُعطي ضوءه والنجوم تسقط من السماء وقوات السماوات تتزعزع. وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان آتيًا على سحاب السماء بقوة ومجد كثير» (عدد 29، 30).
«وللوقت بعد ضيق تلك الأيام» هذا مما يؤيد أن الضيق العظيم الفريد المتنبأ عنه هو مستقبل بعد ويحصل قبل ظهور المسيح علانية. وان قال قائل أن الضيق المذكور قد أصاب اليهود وقت حصار أورشليم من الجيش الروماني فأني أسأله: وماذا صار للوقت بعد ضيق تلك الأيام؟ لأنه من الأمور المؤكدة كل التأكيد أن العلامات المذكور هنا لم يحصل، لا بل ومجيء الرب نفسه بقوة ومجد كثير لم يحصل حالاً بعد ذلك الضيق. فمن جهة اليهود إنما كانت تلك الحادثة لهم مبتدأ الأوجاع، والمسيحيون لم يكونوا في أورشليم وقت الحصار الأخير البتة كما قد رأينا. وإن قيل أن هذا الكلام الخطير عبارة عن انقلاب النظام اليهودي وانتصار تيطس على أورشليم فلا يليق بنا أن نحسب قولاً كهذا إلا من الأقوال الصبيانية التي تنتج عن الجهالة وتضع من شأن الوحي وتقود الناس إلى الاستخفاف به.
«تظلم الشمس والقمر لا يُعطي ضوءه والنجوم تسقط من السماء وقوات السماوات تتزعزع» هذه العلامات تسبق ظهور المسيح بقليل. قابل هذا الكلام الرسول بطرس الذي اقتبسه من نبوة يوئيل النبي عن انسكاب الروح القدس، وحصول تلك العلامات قبل يوم الرب العظيم الشهير الذي هو ظهور المسيح بقوة ومجد كثير من السماء (أعمال الرسل 17:2-21؛ رؤيا 11:19-16) وأما من جهة الروح القدس فقد انسكب يوم الخمسين. ولكن لم تحصل تلك العلامات لأنه إنما انسكب في ذلك الوقت لكي يبتدئ وقت النعمة أي الوقت المقبول الذي فيه كل مَنْ يدعو باسم الرب يخلُص ولكن بعد اختطاف الكنيسة بسبع سنين أي عند ظهور الرب تحصل تلك العلامات ثم ينسكب الروح القدس على الباقين وهم الأتقياء لجمعهم كالحنطة إلى المخزن.
ولقد وردت في النبوات شهادات أخرى كثيرة من جهة العلامات العتيدة أن تحدُث في الأجرام السماوية عند رجوع الرب لكي يتبوأ عرشهُ في ملكوته فينبغي أن نقبلها ببساطة ولا نُصغي دقيقة واحدة للاعتراضات الكُفرية المبنية على علم النجوم التي فحواها أن خالق السماوات والأرض لا يستطيع أن يُزعزعهن إذا شاء ذلك. ربما يقول قائل أنه من الأمور الممكنة أن الشمس تُظلم والقمر لا يُعطي ضوءهُ ولكن كيف تسقط النجوم بدون أن يُخرب الكون؟ ليُلاحظ القارئ المسيحي أن مَنْ اعترض اعتراضات كهذه يهتم كثيرًا جدًا بحفظ الكون على ترتيبه الحالي وتراه كأنه تكلف بهذه الوظيفة السامية (انظر بطرس الثانية 3:3-5). ولكنه لا يليق بنا أن نضطرب من كلام الذين يعتبرون العلوم الكاذبة الاسم أكثر من كلمة الله. فإنه هو سُبحانه وتعالى الذي «يُحصي عدد الكواكب. يدعو كلها بأسماء. عظيم هو ربنا وعظيم القوة. لفهمه لا إحصاء» (مزمور 4:147، 5) فكل ما سبق فأنبأ به لا بد أن يُتممه، ومع ذلك يظل مُحافظًا على أعمال يديه. نحن لا نشُك في وجود كلام مجازي في كلمة الله، ولكني لا أرى مجازًا في ما ورد من جهة العلامات التي ستسبق ظهور الرب بقوة ومجد كثير. وفي الحقيقة حضوره هكذا هو من أعجب الأعمال.
«وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء» المُحتمل أن علامة ابن الإنسان هي شُعاع مجده (عدد 27) فإنه سيأتي حينئذ كشمس البر (ملاخي 2:4) وكما كان يونان آية أو علامة لأهل نينوى بخروجه لهم من بطن الحوت بعد طرحه في أعماق البحر هكذا سيكون المسيح آية أو علامة لإسرائيل والعالم الذين صلبوه في مُفاجأتهم بظهوره لهم حيًا من السماء. وكان ما جاء في الأعداد من (27-30) هو رده على سؤالهم، ما هي علامة مجيئك؟
«وحينئذ تنوح جميع قبائل الأرض ويُبصرون ابن الإنسان آتيًا على سحاب السماء بقوة ومجد كثير» «هوذا يأتي مع السحاب وستنظره كل عين والذين طعنوه وينوح عليه جميع قبائل الأرض» (رؤيا 7:1 انظر أيضًا مزمور 1:5-6) وشهادات أخرى كثيرة لا أقدر أن أُدرجها. ونرى هنا الفرق العظيم بين مجيء الرب سرًا لنا نحن المسيحيين كرجائنا المُبارك ليأخذنا إليه وبين ظُهوره علنًا كابن الإنسان لجميع قبائل الأرض فانه في هذا الظُهور يَقدِم على البشر بغتةً وهم في كل إثمهم ضده، وأما نحن فيجيئنا أولاً ونحن في انتظار قُدومهُ إلينا وفي غاية الشوق للقائه وقد لقننا الروح القدس أن نقول له «تعال، أيها الرب يسوع»
«فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت فيجمعون مُختاريه من الأربع الرياح، من أقصاء السماوات إلى أقصائها».
مُختاروه هنا هم الهاربون من أسباط إسرائيل (رؤيا 1:12، 6؛ 1:7-8) الذين سيجمعهم بعد ظُهوره لا شك أنه مُزمع أن يُجري أعمالاً أخرى ليست مذكورة هنا. لأنه بنبوته هذه إنما يُشير بصفة خاصة إلى ما يختص بإسرائيل «ويكون في ذلك اليوم أنه يضرب ببوق عظيم فيأتي التائهون في أرض أشور والمنفيون في أرض مصر ويسجدون للرب في الجبل المُقدس في أورشليم» (إرميا 13:13؛ 19:66-21؛ حزقيال 34:20-38) هذا من جهة جمع أسباط إسرائيل لا بل البقية منهم لكي يتمتعوا بالبركات الأرضية تحت مُلك المسيح.
وإذا قابلنا كلام الوحي الوارد في شأن ذلك نرى أنه يختلف اختلافًا عظيمًا عما ورد في موضوع انتظارنا الرب ليُقيم الراقدين فيه ويخطفنا نحن الأحياء إليه لكي نكون مثلهً في المجد. (انظر تسالونيكي الأولى 15:4-18) على أن هذا ليس مجال البحث بتدقيق في اختطاف الكنيسة، ولا في جمع أسباط إسرائيل وحالتهم في مُدة الألف السنة.

مَثَل شجرة التين

(عدد 32-35؛ مرقس 28:13-31؛ لوقا 29:21-33)

«فمن شجرة التين تعلّموا المَثل مَتَى صار غُصنها رخصًا وأخرجت أوراقها تعلمون أن الصيف قريب. هكذا أنتم أيضًا مَتَىَ رأيتم هذا كله فأعلموا أنه قريب على الأبواب. الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله. السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول».
لنُلاحظ أن الرب لم يَقُل من شجرة التين تعلموا مثلاً، بل «المَثل» لأن شجرة التين هي المَثل المعروف المُختص بأُمة إسرائيل التي قد يبست بحُكم الرب كل هذه الأجيال. والصيف هو وقت الحصاد (رؤيا 14:14-16). والبيدر يُعبَّر به عن وقت الدينونة، فإذًا مَتَىَ ابتدأت هذه الأُمة تحيا وتنهض من حالة الذُل يكون ذلك دلالة على اقتراب الضيق العظيم الذي قد سبق ذكره. فبعد رجوعهم إلى أرضهم يكونون في تجربة عظيمة أن يفتخروا ظانين أن وقت راحتهم قد حان. ويعتمدوا على عهدهم مع الوحش المُقتدر، ولكنه لا يفي بعهده بل ينقضه في نصف الأسبوع ويزيدهم ضيقًا (انظر إشعياء 4:18-6؛ 14:28-22؛ دانيال 27:9؛ يوئيل 9:3-17) هذه مع شهادات أُخرى كثيرة جدًا تذكر صريحًا ما سيُصيب اليهود بعد رجوعهم إلى أرضهم وبالتحديد ما بين اختطاف الكنيسة وظُهور المسيح. لاحظ أيضًا أن مثل التينة ليس مذكورًا في الكلام عما اختص بخراب أورشليم عن يد الرومانيين لأنه لم يكن مناسبًا لحالتهم وقتئذٍ إذ أنهم لم يكونوا بعد قد تفرقوا من بلادهم ولا صاروا كتينة يابسة تمامًا.
«لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله» يقصد أن الجيل أو الجنس اليهودي لا يتلاشى بل يظل محفوظًا بعناية الله إلى أن يتم كلام الرب هذا. لا يُخفى أنه قد قيل أن الرب إنما يُشير بهذا الجيل إلى أهل ذلك العصر قاصدًا أن الموجودين وقتئذ يبقون إلى خراب أورشليم العتيد أن يتم بعد ذلك بنحو أربعين سنة فأقول:
أولاً- أن لفظة جيل بمعنى جنس قد وردت في الكتاب (انظر تثنية 5:32، 20؛ مزمور 7:12) وفي هذا الإنجيل نفسه (إصحاح 16:11؛ 45:12؛ 35:23، 36).
ثانيًا- يتضح من قرائن الكلام أن المقصود بها هنا الجنس الإسرائيلي إذ يقول «لا يمضي هذا الجيل أي لا ينقرض هذا الجنس حتى يكون هذا كله» وقوله «هذا كله» يشمل كل ما سبق وذكره في هذا الإصحاح، وكله مُتعلق بالجنس الإسرائيلي حتى إتيان المسيح إليهم من السماء كابن الإنسان على السحاب بقوة ومجد كثير.
ثالثًا- قوله «السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول» يؤيد هذا المعنى. قابل هذا مع كلامه الخطير في حفظه شعبه من المُلاشاة رغمًا عن التأديبات الشديدة المُستطيلة «هكذا قال الرب، الجاعل الشمس للإضاءة نهارًا، وفرائض القمر والنجوم للإضاءة ليلاً، الزاجر البحر حين تعُج أمواجه، رب الجنود اسمه. هكذا قال الرب، إن كانت السماوات تُقاس من فوق وتُفحص أساسات الأرض من أسفل فإني أنا أيضًا أرفض كل نسل إسرائيل من أجل كل ما عملوه يقول الرب» (إرميا 35:31-37). كان الله قد حَلَف لإبراهيم أنه يُبارك نسله ويجعلهم بركة للأُمم أيضًا (تكوين 16:22-18) فيليق بالرب وهو مُتنبئ عن ذلك الضيق العظيم الذي سيشتد إلى هذا المقدار حتى أنه لو طال لا يخلص جسد أن يضيف إلى كلامه هذا التأكيد. وقوله الذي يُكرره في العهد الجديد وأعنى به «الحق أقول لكم» هو كقوله في العهد القديم «هكذا يقول الرب». وبالحقيقة المُتكلم هو واحد. معلوم أن كل مَنْ يعترض على مجيئه ثانية وعلى الحقائق العظيمة المُتعلقة به يسند حججه إلى سير الطبيعة ونواميسها مُدعيًا أنها ثابتة وغير قابلة لحدوث شيء خارج مجراها المعروف، ويتعظم بمعرفته الجُزئية بالسماء والأرض المحكوم عليهما بالزوال، ويُقلل الاعتبار لكلمة الرب التي لا تزول. والرسول بطرس قد أشار إلى أمثال هذا بقوله «عالمين هذا أولاً أنه سيأتي في آخر الأيام قوم مُستهزئون سالكين بحسب شهوات أنفسهم وقائلين، أين هو موعد مجيئه؟ لأنه من حين رقد الآباء كل شيء باقٍ هكذا من بدء الخليقة» (بطرس الثانية 3:3، 4). هؤلاء لا يشتهون سرعة مجيء يوم الرب الذي فيه تزول جميع هذه الأشياء التي تتعلق بها قلوبهم وقد جهلوا بإرادتهم حقيقة عظيمة جدًا وهي أن كل شيء ليس باقيًا هكذا من بدء الخليقة لأن الله قد أهلك العالم القديم وقت الطوفان (بطرس الثانية 5:3-7) نعم وقد عمل أعمالاً كثيرة جدًا خارقة للعادة في مُعاملاته للبشر الأثمة وخُصوصًا لشعبه إسرائيل فلا غُرو إن كان يفعل كذلك أيضًا. ولكن شهادات كلمة الله الصريحة لا تفعل كثيرًا في المُعجب بذاته، فانه أهون عليه أن يُحرّف أو يُكذِّب كلمة الله من أن يُكذِّب نفسه ويُقر بأنه أمس ولا يفهم شيئًا (أيوب 9:8).

تحريضات على السهر والانتظار

(عدد 36-50؛ مرقس 32:13-37؛ لوقا 34:21-36)

«وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا ملائكة السماوات إلا أبي وحده. وكما كانت أيام نوح كذلك يكون أيضًا مجيء ابن الإنسان. لأنه كما كانوا في الأيام التي قبل الطوفان يأكلون ويشربون ويتزوجون ويُزوجون إلى اليوم الذي دخل فيه نوح الفلك. ولم يعلموا حتى جاء الطوفان وأخذ الجميع. كذلك يكون أيضًا مجيء ابن الإنسان. حينئذ يكون اثنان في الحقل. يؤخذ الواحد ويُترك الآخر. اثنتان تطحنان على الرحى. تؤخذ الواحدة وتُترك الأُخرى».
«لا يعلم بهما أحد .. إلا أبي وحده» قد جعل الآب الأزمنة والأوقات في سُطانهُ (أعمال الرسل 7:1). لا شك أنه قد عين يومًا فيه يدين المسكونة بيسوع المسيح (أعمال الرسل 31:17) ولكنه لم يشأ أن يجعل ساعة رجوع الرب من الحقائق المُعلنة، بل والابن نفسه كإنسان يشغل مركز العبد لا يعلم ما يعمل سيده لم يكن يَعلم ذلك (مرقس 32:13) حتى يُعلنه للتلاميذ. فإنه لم يتكلم بما يُعلنه له الآب وهذا لا يخل بحقيقة لاهوته البتة. لأنه كان قد أخلى نفسه آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه الناس (فيلبي 5:2-8) بينما في ذات الوقت كان هو الله نفسه العالم بكل شيء (يوحنا 17:21؛ 2:42، 25؛ 30:16).
«وكما كانت أيام نوح كذلك الخ» يُرينا الرب هنا كيف يكون حال إسرائيل والعالم وقت مجيئه. فانه يكون كحال العالم زمان الطوفان تمامًا فانه يجدهم لاهين ومنهمكين بأمور هذه الحياة. لا يذكر هنا شرورهم وفُجورهم لأن قصده أن يظهر عدم انتباههم لأقوال الوحي في شأن إقبال الدينونة نظير الذين عاشوا في زمان نوح قبل الطوفان. كانت الدينونة مُقبلة ولم يعملوا لأنهم لم يُريدوا أن يصغوا لشهادة الله لهم. فلم يخلص منهم سوى بقية قليلة.
«حينئذ يكون اثنان في الحقل يؤخذ الواحد ويُترك الآخر» لا شك أن هذا من جهة الضربات لأن القرينة تدل على ذلك. لقد جاء الطوفان فأخذ به الأحياء على الأرض ولم يُترك إلا نوح وبيته لوراثة الأرض كما سوف لا يُترك على قيد الحياة بعد الضربات المُستقبلة إلا الأبرار للمُلك الألفي وأما في وقت اختطاف الكنيسة فسيكون الأمر بعكس ذلك تمامًا بحيث أن الذي يُخطف يصبح مع الرب إلى الأبد والذي يُترك يكون على الأرض في وقت الضربات. كان نوح مثالاً للذين سيخطفهم الرب ليرثوا الأرض وأما أخنوخ الذي نُقل إلى السماء قبل الطوفان فمثال لنا نحن من حيث أننا سوف لا تكون لنا علاقة بالأرض ولا وجود عليها عندما تنسكب ضربات غضب الله على الأرض.
«اسهروا إذًا لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم. واعلموا هذا أنه لو عرف رب البيت في أي هزيع يأتي السارق لسهر ولم يدع بيته يُنقب. لذلك كونوا أنتم أيضًا مُستعدين لأنه في ساعة لا تظنون يأتي ابن الإنسان» (عدد 42-44).
الرب من الآن فصاعدًا يتكلم بما يُناسب حالة تلاميذه طول مدة غيابه بحيث يجب عليهم أن يسهروا ويكونوا دائمًا مُستعدين لمجيئه. لأنه سيُقدم على العالم كلص في الليل ولكنه لا يأتينا نحن هكذا.
«فمَنْ هو العبد الأمين الحكيم الذي أقامه سيده على خدمه ليُعطيهم الطعام في حينه؟ طوبى لذلك العبد الذي إذا جاء سيده يجده يفعل هكذا. الحق أقول لكم أنه يُقيمه على جميع أمواله. ولكن إن قال ذلك العبد الرديء في قلبه. سيدي يُبطئ قُدومه. فيبتدئ يضرب العبيد رُفقاءه ويأكل ويشرب مع السكارى. يأتي سيد ذلك العبد في يوم لا ينتظره وفي ساعة لا يعرفها فيقطعه ويجعل نصيبه مع المُرائين. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان» (عدد 45-51).
في الفصل السابق يتكلم الرب عن وجوب السهر على الجميع بالنظر إلى عدم معرفتهم ساعة مجيئه حتى أنه عندما يجيء لا يُفاجئهم كلص وأما هنا فيذكر بنوع خاص الذين لهم مركز خدمه في بيته مدة غيابه. فقصده بإقامة البعض في خدمه خاصة أن يعطوا أهل بيته الطعام المُناسب ويُمارسوا خدمتهم باعتبار مسئوليتهم لسيدهم العتيد أن يرجع ويُحاسبهم فالعبد الأمين الحكيم يُكمل خدمته هكذا ويحظى برضى السيد الذي سيُجازيه جزاءً عظيمًا، فانه يُقيمه على جميع أمواله. وجميع أموال الرب هي كل شيء لأن الآب دفع ليده كل شيء (يوحنا 3:13) فإذًا عندما يملك على كل شيء كابن الإنسان يشرك عبيده الأمناء معه. وعلى ذلك شهادات كثيرة.
«ولكن إن قال ذلك العبد1 الرديء في قلبه الخ» توجد هنا حقيقة أخرى هي أنه يمكن أن يكون واحد مُنتسبًا إليه كعبد ويتغافل عن سرعة مجيئه فإذ ذاك يبتدئ يتسلط على العبيد رفقائه ويُعاشر العالم «لأن الذين ينامون فبالليل ينامون والذين يسكرون فبالليل يسكرون» (تسالونيكي الأولى 7:5). لا يقول عن العبد الرديء أنه أنكر رجوع سيده بل أنه قال في قلبه «سيدي يُبطئ قُدومه» ومن ثمَّ استولى عليه روح هذا العالم وخالف قول الرب السابق «فلا يكون هكذا فيكم» (إصحاح 26:20).
وأما من جهة تخصيص هذا المثل الخطير فأقول:
أولاً- إن غايته العظمى هي إيضاح الخدمة الأمينة للرب في غيابه من حيث انتظار مجيئه دائمًا. سبق وحذرهم من الروح الناموسي كفعلة عاملين بحسب اتفاق رسمي في كرم لواحد أجنبي عنهم ليست لهم معه شركة. وأما هنا فيُشجعهم على الأمانة والسهر والاجتهاد إذ أن موضع خدمتهم هو بيت سيدهم. وان كانوا أمناء في القليل يُقيمهم أخيرًا على الكثير. ويُحذرهم وإيانا أيضًا من الفكر في القلب أنه يُبطئ قُدومه.
ثانيًا- التغافل عن سرعة رجوع الرب هو مما فتح الباب للرياسة الإكليركية. لا شك في ذلك لأن الرب يذكر صريحًا هنا أن العبد قال في قلبه أولاً «سيدي يُبطئ قُدومه» ومن ثمَّ أخذ يترأس على الذين هم داخل البيت ويُعاشر العالمين من خارج. ولكن مع هذا كله ينبغي لنا أن نذكر أن المراد بهذا المَثل ليس فريقًا من الأشخاص بل وصف الخدمة نفسها والروح المُطيع الذي يجب أن يتصف به الخادم في أي وقت كان. إننا لا نزال في تجربة شديدة عندما نقرأ هذا المثل وخلافه من الأمثال أن نتصور أشخاصًا ونظن أننا نقدر أن ندل عليهم ونقول هؤلاء عبيد أمناء وأما أولئك فهم ممن يُمثلهم الرب بالعبد الرديء. وبالحقيقة نُحاول أن نُقيم أنفسنا مقام قُضاة لنحكم. ولكن ليس هذا هو العمل اللائق بنا، لأن الله أعطانا كلمته لتجعلنا نحكم على أنفسنا لا على الآخرين. تود قلوبنا الخائنة أن تفتخر عندما نرى في أنفسنا شيئًا من الصفات الممدوحة ونظن أننا من الصف الممتاز ونأخذ نُفتش على الذين لا توجد فيهم هذه الصفات. فينبغي أن نحترس من ذلك كل الاحتراس، فمن صفات الخدمة الحقيقية أن الخادم يشعر بمسئوليته الشخصية للرب أن يعتني بأمور السيد وقت غيابه مُتذكرًا أنه لا بد أن يرجع ويُحاسبه على وكالته. لقد أوصى الرسول بولس ابنه تيموثاوس وصية مُشددة من جهة خدمته فقال له: «أوصيك أن تحفظ الوصية بلا دنس ولا لوم إلى ظُهور ربنا يسوع المسيح» (تيموثاوس الأولى 14:6 انظر أيضًا تيموثاوس الثانية 1:4-8؛ بطرس الأولى 1:5-4) لأن الخدمة تقترن دائمًا مع ظُهور الرب. وليس مُراد كلامنا المعرفة التعليمية أو العقلية بحقيقة مجيء الرب فانه يمكن لنا أن نقر بذلك ونُعلمه للآخرين بغيرة شديدة بينما ليست أفكارنا وحياتنا مُرتبة بموجبة. ومن الجهة الأخرى فلا شك أنه قد كان للرب عبيد كثيرون خدموه بأمانة كل واحد حسب طاقته مع أن معرفتهم بكيفية مجيئه كانت قليلة جدًا. ولكنهم كانوا يحبون ظهوره العادل وواظبوا على خدمتهم له ناظرين إلى وقوفهم كعبيد أمامه لتقديم حسابهم. ولا بد لي أن أُكرر القول أن وقت المُحاسبة ليس عند الموت بل عند ظهور المسيح. فإن بطرس وبولس وتيموثاوس لا يزالون مُنتظرين تلك الساعة الخطيرة حين تظهر صفات خدمتهم وأثمارها. لا شك أن كثيرين من غير المُتجددين قد اتخذوا منصب خدمة وعاشوا وماتوا هكذا وذهبوا إلى مكانهم الخاص مثل يهوذا الاسخريوطي. ولكنهم لم يهلكوا لكونهم عبيدًا أردياء بل لعدم وجود الإيمان القلبي فيهم. إن سوء تصرفهم كعبيد يزيد عذابهم ولكنه لم يُسبب هلاكهم

متي23

الإصحاح الثالث والعشرون

بعض صفات الكتبة والفريسيين

(عدد 1-12؛ مرقس 38:12-40؛ لوقا 45:20-47)

«حينئذ خاطب يسوع الجموع وتلاميذه قائلاً على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون. فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه وافعلوه ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا لأنهم يقولون ولا يفعلون» (عدد1-3).
أخذ الرب يسوع يخاطب الجموع وتلاميذه من جهة بعض واجباتهم فقال لهم «على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون» (عدد 2) لم يكن النظام العتيق قد انتهى بعد فإن كرسي موسى كان لم يزل موجودًا. وكان يجب على جميع الإسرائيليين أن يسمعوا كلام التوراة. قابل قول الرب هنا مع قول يعقوب «لأن موسى منذ أجيال قديمة له في كل مدينة من يكرز به إذ يُقرأ في المجامع كل سبت» (أعمال الرسل 21:15) فالواضح أنه يستعمل اسم موسى للتعبير عن التوارة كلها. وكانت غاية اجتماعهم في المجامع استماع كلمة الله المُتضمَّنة في التوارة. وكان الكتبة والفريسيون قد أخذوا على عاتقهم أن يقرأوها للمجتمعين، على نسق ما فعل عزرا الكاتب ورفاقه (عزرا 8) وهذا من الأمور الحسنة التي كان يمكن للرب أن يُصادق عليها.
«فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه» (عدد 3) وأما تفاسيرهم للتوراة وأقوالهم وخرافاتهم فكانت مرفوضة عند الرب كما رأينا في (إصحاح 5، 15). لأنها كانت على وجه الأجمال منحرفة كل الانحراف ولا يمكن للرب أن يُصادق عليها البتة. ولا نرى أن الرب أو واحدًا من رسله اقتبس شيئًا منها مُصادقًا عليها. كان الوحي يستطيع أن يقتبس أقوالاً من بعض الشعراء الوثنيين (أعمال الرسل 28:17؛ تيطس 12:1) وأما التعاليم الدارجة وقتئذ بين اليهود فلم يذكرها إلا ليُظهر تحريفها. لا يُخفى أن كثيرين من المسيحيين قد استنتجوا من كلام الرب هنا استنتاجات غريبة جدًا إذ قالوا أنه يجب علينا أن نخضع للرؤساء الدينيين ولو كانت أعمالهم رديئة اعتبارًا لوظيفتهم. وزعموا أنه يوجد سلطان كنسي لهم يُوجب ذلك. وغضوا النظر عن أهم ما في الموضوع وهو: كيف حصل هؤلاء الرؤساء على هذه الوظيفة؟ وهل هي من الله؟ قد وجدوا أنه كان لموسى كرسي. فظنوا أنه لا بد أن يكون له كرسي حتى الآن. ويجب أن نخضع للذين قد جلسوا عليه. فأقول:
أولاً- أن الاستماع لكلمة الله من واجباتنا المسيحية ويجب أن نُصغي لها في كل حين. وإن كان الذي يأتينا بها يحاول أن يفسرها أيضًا نمتحن تفاسيره بواسطة الكلمة نفسها. فإن كانت صحيحة نفرح ونستفيد منها ونشكر الرب الذي هو مصدر كل عطية صالحة وكل موهبة تامة (يعقوب 17:1) وإلا فنرفضها.
ثانيًا- لا يوجد في الكنيسة كرسي لموسى أو لغيره. حتى الرسل أنفسهم لم يكن لهم كراسي، لأن السيادة والسلطان ليسا لهم بل للرب الذي كانوا يكرزون به (كورنثوس الثانية 5:4؛ يوحنا 13:13) ولكلمته التي نطقوا بها لا شك أن الرب استخدمهم بخدمةً عظيمةً جدًا. ولكننا لا نسمع أنه كان لواحد منهم منصب يعبر عنه بكرسي. فإنهم جالوا مبشرين بكلمة الله الصافية. وكل من كان خاضعًا لله كان يسمع لهم أيضًا (يوحنا الأولى 6:4) وكان يجب على السامعين أن يفحصوا الكتب المُقدسة ليتحققوا أتعاليمهم صحيحة أم لا (أعمال الرسل 11:17) وقال بولس «ولكن إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم فليكن أناثيما إلخ» (غلاطية 6:1-10) ومع ذلك فقد ابتعد كثيرون عن كلمة الله واخترعوا تعاليم غريبة ويطلبون من الناس أن يخضعوا لهم لكونهم قد جلسوا في منصب نظير كرسي موسى.
ثالثًا- نرى من شهادات كثيرة واردة في العهد الجديد أن الرُسل والمؤمنين الأولين من اليهود أخذوا من بعد يوم الخمسين يتركون الكتبة والفريسيين رويدًا رويدًا رغم وجود التوارة عندهم وأخيرًا تخلوا تمامًا عن الحضور في المجامع، بل وعن نفس العبادة الطقسية في الهيكل. كان النظام الأول من الله وقد استنفد غايته في مجيء المسيح وموته (رومية 1:7-6؛ 4:10؛ غلاطية 24:3-26؛ 1:4-7؛ عبرانيين 8:10-10). ولكن لأنه كان منه تعالى احتمله زمانًا طويلاً حتى بعد بداءة الإيمان المسيحي بما يقرب من نحو 40 سنة وفي ذلك الوقت كان يجب على جميع اليهود المؤمنين بالمسيح أن يخرجوا إليه خارج المحلة حاملين عاره (عبرانيين 13:13) ثم أخربه أخيرًا على يد تيطس الروماني كما أنبأهم المسيح بذلك (عدد 38).
رابعًا- كرسي موسى مهما كان لم يُنصَّب لنا نحن المؤمنين من الأمم. ومن قال بأن الكنيسة المسيحية إنما اتساع وامتداد للنظام اليهودي يقر جهارًا أنه من الذين قد تهودوا وأصبحوا لا يهودًا ولا مسيحيين.
«ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا لأنهم يقولون ولا يفعلون» الأقوال المقصودة هنا هي التي قالوها من كلمة الله. وكانوا ملومين لأنهم لم يعملوا بها. قرأوا أقوال التوارة على الآخرين وشددوا على حفظها مع أنهم هم لم يحفظوها.
«فإنهم يحزمون أحمالاً ثقيلة عسرة الحمل ويضعونها على أكتاف الناس. وهم لا يريدون أن يحركوها بإصبعهم. ولك أعمالهم يعملونها لكي تنظرهم الناس. فيعرضون عصائبهم ويعظمون أهداب ثيابهم. ويحبون المتكأ الأول في الولائم والمجالس الأولى في المجامع والتحيات في الأسواق وأن يدعوهم الناس، سيدي سيدي. وأما أنتم فلا تدعوا سيدي لأن معلمكم واحد المسيح وأنتم جميعًا إخوة. ولا تدعوا لكم أبًا على الأرض. لأن أباكم واحد الذي في السماوات. ولا تدعوا معلمين لأن معلمكم واحد المسيح، وأكبركم يكون خادمًا لكم. فمن يرفع نفسه يتَّضع ومن يضع نفسه يرتفع» (عدد 4-12).
في هذا الفصل يذكر الرب بعض صفات الكتبة والفريسيين كريائهم وحبهم للشهرة والتبجيل من الناس والنفوذ الديني. وقصد بذلك أن يحذر تلاميذه من قدوتهم السيئة. فعندما نقرأ كلامه يجب أن نخصصه لأنفسنا لأن قلوبنا الرديئة تميل إلى الأشياء المُنهى عنها. وهى خائنة إلى هذا المقدار حتى أنه من الأمور الممكنة أن نذم الموصوفين هنا ونستقبح فعلهم ونحن سائرون سيرهم. لأننا نستطيع أن ننظر عيوب الآخرين بسهولة في حين يعسر علينا جدًا أن نرى ما فينا من عيوب. ولو لم يكن تلاميذ المسيح مائلين إلى كل ما كان أولئك عليه لما كان مُوجب لإنذارات الرب لهم أن لا يعملوا حسب أعمالهم. وقد رأينا طمَّعهم في الترؤس بعضهم على بعض، وذلك في ظروف مؤثرة، وقدوة سيدهم الوديع قدام أعينهم، وأقواله تطرق آذانهم (إصحاح 20:20-28) وأن كان القارئ أو الكاتب يظن أن إنذارات الرب الخطيرة لا تعنيه فقد تغافل عن حالة قلبه البشري كل التغافل. فالأليق بناء جميعًا عند تأملنا في ما نطق به الرب في شأن الذين اتخذوا الدين علة لرفع ذواتهم في الدنيا أن نقول ما قاله التلاميذ في وقت آخر «هل أنا هو يارب؟» (إصحاح 22:26). معلوم أنه لا يمكن للجميع أن يفوزوا بالمجالس الأولى في المجامع ولكن الفرق قليل جدًا بين من جلس هناك وبين من استظرف واستحسن هذه الجلسة الرئيسية. إذ أن أصل العملين واحد وهو الكبرياء التي تحملنا دائمًا وأبدًا على أن ننسى مجد المسيح ونرفع ذواتنا أو الآخرين. وبالحقيقة عندما نعظم غيرنا نحن في ذات الوقت نعظم ذواتنا أيضًا لأننا إنما نعمل ذلك لكي نفتخر بهم لكونهم من مذهبنا أو طائفتنا.
«فإنهم يحزمون أحمالاً ثقيلة عسرة الحمل ويضعونها على أكتاف الناس وهم لا يريدون أن يحركوها بإصبعهم» كان نظام الناموس مع فرائضه الكثيرة نيرًا لا يمكن حمله (أعمال الرسل 10:15). والله جعله هكذا عن قصد لكي يقنع الإنسان أنه لا يستطيع أن يصنع برًا لنفسه ولم يمكن لمن قرأ الناموس على الناس أن يخفف أحماله العسر الحمل ولكنه كان ملومًا إذا قرأه عليهم طالبًا أن يحفظوه وهو نفسه يستعفي من ذلك كما فعل أولئك المعلمون. وهذه التجربة قريبة منا جميعًا ولذلك قال يعقوب «لا تكونوا معلمين كثيرين يا إخوتي عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم» (يعقوب 1:3) نعم الديانة المسيحية ليست نيرًا ولكنها تطلب الطاعة للرب في كل شئ ومن يعلّم الآخرين نكران الذات وحمل الصليب ينبغي أن يكون لهم قدوة (تيموثاوس الأولى 13:4) فأن الرب يحاسبه بحسب النور الذي كان عنده.
«فيعرضون عصائبهم» العصابة عند اليهود كانت شريطًا من جلد كتبوا عليها آيات من التوارة وجعلوها على الجبهة أو الصدر أو العنق أو اليد علامة للتقوى والتدين. وغاية أولئك من تعريض عصائبهم التظاهر بغيرة دينية فوق العادة ولكن الله طالب أن كلمته تكتب على القلب لا على الثياب.
«ويعظمون أهداب ثيابهم» كان عندهم أمر في (عدد 38:15) بأن يصنعوا لثيابهم شريطًا من الاسمانجوني تمييزًا لهم عن الأمم. وربما دل ذلك اللون على سلوك سماوي أي موافق لأفكار السماء. على أن الكتبة والفريسيين إنما اتخذوا علامة للافتخار بعضهم على البعض ومن الآخرين، فبالحقيقة لا يوجد نوع من الأعمال الصبيانية إلا ويمكن القلب البشري أن يذهب إليه ويفتخر به تحت ستر التدين.
«ويحبون المتكأ الأول في الولائم والمجالس الأولى في المجامع» (عدد 6) حبًا في تقدير الناس لهم وتبجيلهم واحترامهم. «والتحيات في الأسواق» (عدد 7) حبًا في الشهرة. «وأن يدعوهم الناس، سيدي، سيدي» حبًا في النفوذ الديني. فإن كنا مثلهم تنتظر اعتبار الناس لنا بسبب تقوانا ومعرفتنا لكلمة الله فأننا نكون مُظهرين نفس الروح الذي كان فيهم، وكلما حصلنا على ذلك احتقرنا سيدنا الذي كان مهانًا من الناس وعلّم تلاميذه أن يكونوا كذلك.
«وأما أنتم فلا تدعوا سيدي إلخ» فنرى أن الكرامة العالمية باسم التدين ممنوعة من الجهتين. فأولاً لا يجوز أن نقبلها من الآخرين، وثانيًا لا يجوز أن نعطيها لهم. فقد قال الرب «ولا تُدْعَوا ولا تَدْعُوا» لأن من يقبل كرامة كهذه يخون سيده الذي هو وحده المستحق لكل كرامة ومجد. ومن يكرم الآخرين بهذه الألقاب التي تخص الله يهينه تعالى، إذ أنه بذلك يضعهم في منزلته. فليس لنا إلا سيد ومعلم واحد هو المسيح، وأب واحد هو الآب السماوي، ويكفينا أن نكرمهما كل الإكرام تاركين البشر جميعًا، وخصوصًا ذواتنا في التراب الذي هو الموضع اللائق بنا في دائرة الأمور الروحية.
«فمن يرفع نفسه يتَّضع إلخ» أي أن كل من خالف أقوال الرب هذه قابلاً الإكرامات الدينية أو مقدمًا إياها لغيره فسيوضع في الحضيض، وقت الدينونة.
ولا حاجة إلى القول هنا أن هذا الكلام لا دخل له بما يجب علينا من إكرام للحكام الذين أقامهم الله بعنايته. ولا بما نستعمله بروح اللطف من التسليمات والتحيات طبقًا لما تقتضيه اللياقة في كل حال لأننا لسنا نقصد بها تقديم الإكرامات الدينية. فأننا يجب أن نكرم الجميع ولا سيما الملك (بطرس الأولى 17:2).
وأيضًا لا دخل لكلام الرب هنا بالكرامة الروحية المُتبادلة بيننا والتي يجب أن نقدم بعضنا بعضًا فيها (رومية 10:12)، كما لا دخل له في واجب تقديم الكرامة للذين يعلون عمل الرب بأمانة (في29:2؛ تسالونيكي الأولى 13:5؛ تيموثاوس الأولى 17:5)، صحيح أنه ليس من واجبهم أن يطلبوها (تسالونيكي الأولى 6:2) ولكن من واجبنا نحن أن نقدمها لهم بطرق روحية لائقة وليس بكلام ملق أو ألقاب إكرامية نميزهم بها عن الآخرين. وهذا ما يجي علينا. وإذا قصرنا عنه فالمحتمل أن يكون السبب هو نفس الكبرياء التي لا تليق بنا كتلاميذ المسيح. وإن القلب ليمل من ذكر كل الإهانات التي قد حصلت بسبب المخالفة لكلام الرب الذي نحن بصدده هنا. وإني مرة أخرى أعيد قولي السابق أننا جميعًا في تجربة أن نهين الآب والابن بتعظيم الإنسان الذي قصد الله أنه لا يفتخر أمامه (كورنثوس الأولى 29:1). وإن افتخر إلى حين فلابد وأنه يرجع إلى التراب ويأكله الدود. نعم، ويكتسي خزيًا عند وقوفه أمامه تعالى للمحاسبة.

نداء الرب بالويلات على الكتبة والفريسيين

(عدد 13-36؛ مرقس 38:12-40؛ لوقا 46:20، 47 مع 39:11-52)

«ولكن ويل لكم أيها الكتبة والفريسيين المراؤون لأنكم تغلقون ملكوت السماوات قدام الناس فلا يدخلون أنتم ولا تدعون الداخلين يدخلون» (عدد 13).
في هذا الفصل الذي وصلنا إليه ينادي الرب بثمانية ويلات خطيرة على أولئك المُعلمين الذين أضلوا شعبه وقادوهم إلى رفضه. كان قد أنابهم ببركات لا توصف ولم يكن في قلبه من نحو إسرائيل سوى المحبة ولكنهم حولوه إلى قاضٍ لهم. كان يُحب في بداءة خدمته الجهارية أن يقول طوبى لكم (إصحاح 3:5-11) ولكنه ألتزم أن ينهيها قائلاً «ويل لكم» وفي ذلك مثال لمدة المناداة بالإنجيل أيضًا إذ أنها ابتدأت بالنعمة وستنتهي بالدينونة.
«أيها المراؤون» قال لهم هذا سبع مرات (عدد 13، 14، 15، 23، 25، 27، 29) ومرتين قال لهم «أيها القادة العميان» (عدد 16، 24) ومرتين «أيها الجُهال والعميان» (17، 19) ومرة «أيها الفريسي الأعمى» (عدد 26) ومرة «أيها الحيات أولاد الأفاعي» (عدد 33) فما أشد وطأة ‍‍ الدينونة!
«لأنكم تغلقون ملكوت السماوات قدام الناس الخ» فالويل الأول لهم لأنهم أغلقوا ملكوت السماوات قدام الذين كانوا تحت سطوتهم. والغلق مجاز يشير إلى ما عملوا مع الناس الذين كانوا يستمعون للمسيح بسرور (مرقس 37:12) ليصدوهم عن الاستماع له.
لم يكن الملكوت قد فتح بعد. ولما فتح لم يقدر أولئك المُقاومون أن يغلقوه حرفيًا. غير أنهم قدروا أن يغلقوه معنويًا بمنع إسرائيل عن الدخول إليه. كان يكرز به من أيام يوحنا المعمدان فقاوموه قبل موت المسيح وبعده أيضًا.
«ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تأكلون بيوت الأرامل ولعلة تُطيلون صلواتكم. لذلك تأخذون دينونة أعظم» (عدد 14). ‍‍‍‍‍
لم تكن لهم شفقة على الذين بحكمة الله السامية في أعمال عنايته قد حرموا من حمايتهم الطبيعية. وصاروا مُحتاجين إلى مَنْ يقوم للمُطالبة بحقهم والدفاع عنهم ضد ظلم الآخرين (إشعياء 1:4). وأما أولئك فمع كل تظاهرهم بالتقوى كانوا بسبب مطامعهم من أكبر الظالمين. واستغلوا مركزهم الديني في اختلاس أرزاق الأرامل ضدًا للشريعة التي أمرت الجميع بالشفقة على مثل هؤلاء وبحفظ أنصبتهم في أرض الرب. ولكن صلوات أولئك المُرائين الطويلة لا تخفي خُبثهم عن نظر الله ولا تُنجيهم من دينونته.
«ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تطوفون البحر والبر لتكتسبوا دخيلاً واحدًا. ومَتى حصل تصنعونه ابنًا لجُهنم أكثر منكم مُضاعفًا» (عدد 15).
في عملهم هذا نرى كيف أنه يمكن أن نغار غيرة شديدة على انتشار إيماننا مع أنه لم يعمل فينا نحن عملاً صحيحًا مُنتجًا للأثمار المرضية لله وإذ ذاك يكون الدخلاء مثل الذين تلمذوا لا بل وأشر إذ أنهم لم يتخلصوا من أضاليل ديانتهم العتيقة إلا في الظاهر فقط وما استفادوا شيئًا من الجديدة إلا الرياء فقط. لكن لم يشمل هذا جميع الدُخلاء بل كان منهم الأتقياء (أعمال الرسل 43:13).
«ويل لكم أيها القادة العميان القائلون مَنْ حلف بالهيكل فليس بشيء ولكن مَنْ حلف بذهب الهيكل يلتزم. أيها الجُهال والعميان، أيُما أعظم؟ الذهب أم الهيكل الذي يُقدس الذهب؟ ومَنْ حلف بالمذبح فليس بشيء، ولكن مَنْ حلف بالقُربان الذي عليه يلتزم. أيها الجُهال والعميان أيُما أعظم القُربان أم المذبح الذي يُقدس القُربان؟ فإن مَنْ حلف بالمذبح فقد حلف به وبكل ما عليه. ومَنْ حلف بالهيكل فقد حلف به وبالساكن فيه. ومَنْ حلف بالسماء فقد حلف بعرش الله وبالجالس عليه» (عدد 16-22). ينبغي على كل مَنْ يأخذ على عاتقه أمر تعليم الديانة أن يُعلم الذمة أيضًا أي أن يُخصص حقائق الديانة وأُصولها لضمائر الناس وأحوالهم عمليًا. ومن ثَمَّ يحتاج إلى الحكمة والاختبارات الروحية التي لا يقدر أن يحصل عليها إلا بالسير مع الله. وكان من اختصاصات رئيس الكتبة أن يرشد إسرائيل ويحل لهم المشاكل المُتعلقة بما يحل وما لا يحل بحسب كلمة الله (تثنية 8:17-13؛ عزرا 10:7) ولكن بعد انحطاطهم وخضوعهم للأجانب انهمك رؤساء الكهنة في الأمور السياسية وتهييج ألفين مرة وإخمادها أخرى. فتارة يتآمرون على الدولة الرومانية وأخرى يطيعونها. وقلما همهم شيء من وظيفتهم السامية سوى شرفها فقط. فأصبح الشعب تحت قيادة الكتبة والفريسيين تمامًا.‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍
«أيها القادة العميان» (عدد 16) لما وكَّل الأمر إلى الكتبة اخترعوا مبادئ فاسدة يتضح فسادها حالاً لكل مَنْ له تمييز روحي فلذلك أشهرهم الرب ولَقبهم بقادة عميان وجُهال.
«أيما أعظم، الذهب أم الهيكل الذي يُقدس الذهب؟ ..، القُربان أم المذبح الذي يُقدس القُربان؟» .
كان الحلف ممنوعًا وإنما أشار الرب إلى الحلف هنا لكي يُبين جهالة المُعلمين الذين ميزوا في تعاليمهم للشعب بين الهيكل وذهبه وبين المذبح وقربانه.
«ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون والمُراؤون لأنكم تُعشرون النعنع والشبث والكمون وتركتم أثقل الناموس الحق والرحمة والإيمان. كان ينبغي أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك. أيها القادة العميان الذين يصفون عن البعوضة ويبلعون الجمل» (عدد 23، 249 «تُعشرون النعنع الخ». كانوا مُدققين في بعض مطاليب الناموس التي ممارستها هينة وتركوا كل ما يُكلفهم نكران الذات. كان يجب عليهم أن يُعشروا جميع محاصيل الأرض للاويين سنويًا (لاويين ا30:27).
«وتركتم أثقل الناموس الخ» لأن الذي أمرهم بتلك العُشور قال لهم أيضًا «تُحب قريبك كنفسك» (لاويين 18:19) ولكنهم اهتموا بالعرض وأعرضوا عن الجوهر «يصفون عن البعوضة ويبلعون الجمل». كان الجمل أكبر الحيوانات النجسة عندهم (لاويين 4:11) والبعوضة أصغرها (لاويين 23:11) فكانوا معتادين في غيرتهم الزائدة أن يصفوا مشروباتهم خوفًا من التنجس تبلع بعوضة ولكنهم لم يحتسبوا لأكبر علة تسبب النجاسة إن كانت مما يؤول إلى تتميم أغراضهم الذاتية.
«ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المُراؤون لأنكم تُنقون خارج الكأس والصحفة وهما من داخل مملوآن اختطافًا ودعارة. أيها الفريسي الأعمى نقِ أولاً داخل الكأس والصحفة لكي يكون خارجهما أيضًا نقيًا» (عدد 25، 26). يجب أن نكون أواني نقية لله لا من الخارج فقط بل بالأولى من الداخل أيضًا «فوق كل تحفُظ احفظ قلبك، لأن منه مخارج الحياة» (أمثال 23:4) فالقلب المُنقى بكلمة الله هو المصدر الوحيد للسلوك الطاهر. ولكن ليس مَنْ يقدر أن يُنقي ويُطهر داخل الإنسان إلا الله وحده. وإن كانت أفكار القلب ونياته ليست مُنتظمة أمام الله فأعمالنا الظاهرة إنها حسنة ليست سوى مكرهة عنده.
«من داخل مملوآن اختطافًا ودعارة» كان أولئك محمولين من الطمع فخطفوا أرزاق الأرامل وظلموا المساكين. وعندما نقرأ كلام الرب هذا علينا أن نتذكر الإنذارات العديدة لنا كمسيحيين من جهة محبة المال التي هي أصل لكل الشرور.
«ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المُراؤون لأنكم تشبهون قبورًا مبيضة تظهر من خارج جميلة وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة. هكذا أنتم أيضًا من خارج تظهرون للناس أبرارًا ولكنكم من داخل مشحونون رياء وإثمًا»
«تشبهون قبورًا مبيضة». في الفصل السابق ذكر الرب ظلمهم في اكتساب المال ودعارتهم أو تمتعهم بما اكتسبوه بالمُقابلة مع تظاهرهم بالتقوى. وأما هنا فيُشبههم بقبور قد حوت الموتى ولكن يد الأحياء قد بيضتها حتى تظهر جميلة لمن مر بها وتلهيه عن التَفكُر في المحزنة التي كانت قادرة أن تقُصها عليه لو تأمل في حقيقة الموت كما هي. هكذا كانت قلوب الكتبة والفريسيين وهكذا قلوبنا نحن إن كنا غير مولودين من فوق. فهذا التشبيه يُمثل حالتهم كغير مُتجددين فمهما اجتهدوا ليَظهروا أبرارًا للناس لم يزل الإثم الأصلي منتنًا في داخلهم لا بل أضافوا إليه الرياء بما عملوه لكي ينظرهم الناس (عدد 5).
«ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المُراؤون لأنكم تبنون قبور الأنبياء وتُزينون مدافن الصديقين وتقولون لو كنا في أيام آبائنا لَمَاَ شاركناهم في دم الأنبياء فأنتم تشهدون على أنفسكم أنكم أبناء قتلة الأنبياء فاملأوا أنتم مكيال آبائكم أيها الحيات أولاد الأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم؟» (عدد 29-33). لقد أظهروا غاية الاحترام لعبيد الله الأُمناء الذين أرسلهم ليشهدوا ضد شرور شعبه وقُتِلوا لأجل أمانتهم في أيامهم وكان من الأمور الهينة لأولئك المُرائين أن يُزينوا قبورهم الصامتة التي لم يكن لها لسان لتُوبخهم على إثمهم ولكن رفْضَهم المسيح وقَتْلَّهم إياه، واضطهادهم وقَتْلَّهم بعد ذلك لرُسله وقديسيه شَهَدَ شهادة صريحة على أنهم أبناء قتلة الأنبياء. ولو كانوا في أيام آبائهم لَعَمِلوا مثل آبائهم. معلوم أنه من الأمور الهينة علينا أن نكتسب صيتنا كأتقياء عند العالم بإظهارنا اعتبارًا لذكر الشُهداء القُدماء مُتظاهرين بأننا مثلهم مع أن سلوكنا ليس بمُتصف بشيء من الأمانة التي امتازوا بها. وربما لو كنا في أيامهم لكانت أيدينا عليهم قبل الكل لقتلهم.
«فاملأوا أنتم مكيال آبائكم» هذا مما يُبرهن على أن الرب ينظر إليهم كأُمة واحدة، وأن مُعاملات الله لهم تُجرى معهم على اعتبار كونهم شعبًا واحدًا تحت مسئولية خاصة واحدة من أول تاريخهم إلى آخره. وكان قد عَيَن لهم كأُمة مقدارًا من الصبر عليهم والاحتمال لهم يُعبر عنه. بمكيال فابتدأ الآباء يملأونه والأبناء يُكملونه لكن كان الأبناء أعظم ذنبًا من الآباء إذ كان لهم نور أكثر. ومن ثَمَّ فلن يُمكن أن ينجوا من دينونة جهنم. (انظر يوحنا 21:8).
«لذلك ها أنا أُرسل إليكم أنبياء وحُكماء وكتبة فمنهم تُقتلون وتُصلبون ومنهم تُجلدون في مجامعهم وتُطردون من مدينة إلى مدينة لكي يأتي عليكم كل دم زكي سُفك على الأرض من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح. الحق أقول لكم أن هذا كله يأتي على هذا الجيل» (عدد 34-36). بقوله «ها أنا أُرسل إليكم أنبياء وحُكماء وكتبة الخ». يُشير إلى إرساله رُسلهُ وخُدامهُ الآخرين إلى اليهود ببشارة النعمة بعد يوم الخمسين (راجع إصحاح 6:22) فإنهم أكملوا مكيال آبائهم برفضهم النعمة وقَتلِهم خُدام العهد القديم.
«لكي يأتي عليكم كل دم ذكي سُفك على الأرض من دم هابيل الصديق» معلوم أن نسل إبراهيم لم يقتلوا هابيل البار ولكن بقتلهم الأبرار المُعاصرين لهم أظهروا أنهم من أولاد قايين لا بل أولاد إبليس الذي كان من البدء قتالاً للناس. (انظر يوحنا الأولى 12:3) فإذًا باستمرارهم على قتل جميع الذين شهدوا على أعمالهم الشريرة رغم وجود نور كلمة الله عندهم أصبحوا خُلفاء قايين وورثة ذنبه بل خُلفاء أو أبناء كل قتلة الأبرار والأنبياء (عدد 31).
«إلى دم زكريا بن برخيا» المُرجح 1أنه يُشير إلى زكريا بن يهوياداع الذي قتلوه في دار بيت الرب (أخبار الأيام الثاني 20:24-22). لقد قتلوا أنبياء كثيرين بعده. ولكن الرب يذكر قتل هذا مع قتل هابيل الصديق لأنه عند موته قال «الرب ينظر ويُطالب» كما قال الله لقايين «دم أخيك صارخ إليَّ من الأرض» (تكوين 10:4).
«الذي قتلتموه». يوحدهم مع آبائهم في ارتكاب الجريمة لأنهم قد جروا مجراهم. كان هابيل، وهو أول مَنْ قُتل، بارًا، وكان زكريا وهو آخر من قُتِل نبيًا. فاتصف اليهود بأنهم قتلة الأبرار والأنبياء.
كان زكريا كاهنًا أيضًا. وقد تجاسروا وقتلوه بين الهيكل والمذبح أي في مواجهة الله نفسه جَلَّ شأنه فكان ذكر موته في ظروف كهذه في مسامع أولئك المُرائين في غاية المُناسبة لتحفزهم في ذلك الوقت لقتل ابن الله ذاته.
«الحق أقول لكم أن هذا كله يأتي على هذا الجيل» يُعني أن الله مُزمع أن ينتقم من أُمة اليهود لأجل سفك كل الدم الذكي الذي سُفك على الأرض ولا يُخفى أنهم تحت قصاص خاص إلى الآن. يجب أن نُلاحظ أيضًا أن النظام المسيحي بالاسم المُعبر عنه ببابل العظيمة عتيد أن يقع تحت هذا الحكم عينه (رؤيا 24:18) لأنه قد اشترك مع أورشليم في خطاياها فيقاص بقصاصها.

الرب يرثي أورشليم

(عدد 37-39؛ لوقا 34:13، 35 قابل لوقا 41:19،42)

«يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المُرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تُريدوا؟ هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا لأني أقول لكم أنكم لا ترونني من الآن حتى تقولوا مُبارك الآتي باسم الرب».
«هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا» الرب بهذه الكلمات الخطيرة يُصرح بالحُكم النهائي على أورشليم المدينة المحبوبة. كان قد بكى عليها عند إقباله إليها (لوقا 41:19-44) ولكن الآن قد صار وقت الحُكم. على أنه يُظهر لُطفًا وحُزنًا لا مزيد عليهما. كان قد حضر إليها كمسيحها وإلهها وباللُطف الإلهي أراد أن يجمع أولادها (إصحاح 28:11-30) أي جميع أسباط إسرائيل إليه ويحميهم ويُباركهم، فرفضوه. ومن ثَمَّ فلا بد أن تجرى الدينونة مجراها إلى أن يتوبوا ويصرخوا كما صرخ الأولاد الصغار في الهيكل «مُبارك الآتي باسم الرب» وحينئذ يظهر لهم ليُباركهم بالبركات التي أنبأ بها الأنبياء الذين سبق وقتلوهم. ولنُلاحظ أن هذا النوع من المُعاملة الإلهية هو نوع سياسي خاص بالأُمة الإسرائيلية على الأرض ولا يُطابق عمل نعمته معنا كأفراد في خلاص نفوسنا.

متي22

الإصحاح الثاني والعشرين

وليمة عُرس ابن الملك (عدد 1-14)

«وجعل يسوع يُكلمهم أيضًا بأمثال قائلاً: يشبه ملكوت السماوات إنسانًا مَلِكًا صنع عُرسًا لابنه. وأرسل عبيده ليدعو المدعوين إلى العُرس فلم يُريدوا أن يأتوا. فأرسل أيضًا عبيدًا آخرين قائلاً: قولوا للمدعوين هوذا غدائي أعددته ثيراني ومُسمناتي قد ذُبحت وكل شيء مُعد. تعالوا إلى العُرس، ولكنهم تهاونوا ومضوا واحدًا إلى حقله وآخرون إلى تجارته. والباقون أمسكوا عبيده وشتموهم وقتلوهم. فلما سمع المَلك غضب وأرسل جنوده وأهلَكَ أولئك القاتلين وأحرق مدينتهم» (عدد 1-7). كان الرب قد أوضح بمَثل الكرم مسئولية إسرائيل ورؤسائهم أن يأتوا بالثمر مُصورًا نفسه فيه أنه (كالناموس والأنبياء ويوحنا المعمدان) أتاهم في طريق البر (أي طالبًا ثمرًا)، وأما في مَثل العُرس فأتاهم في طريق النعمة. فإننا في هذا المَثل لا نرى الله طالبًا ثمرًا بل مُقدمًا دعوة النعمة للجميع، أولاً لليهود ثم لغيرهم.
«يشبه ملكوت السماوات إنسانًا مَلِكًا صنع عُرسًا لابنه» (عدد 2) فالعُرس أو الوليمة الملكية عبارة عن البركات المُرتبطة بحضور المسيح بالمُقابلة مع البركات التي كانت قبل ذلك ولنُلاحظ جيدًا أنه لا توجد علاقة بين مَثل غداء عُرس ابن المَلِك المذكور هنا وعشاء عُرس الخروف المذكور في (رؤيا 1:19-9).
أما هذا المَثل فإن الغرض منه هو أن الله أعد وليمة عظيمة تليق للمَلِك وابنه ثم إرسال الدعوة إلى الجميع ليتمتعوا بما في الوليمة مجانًا، وقبول الدعوة أو رفضها ومُحاكمة الذين تهاونوا بها، وكل هذا مما يجرى على الأرض لا في السماء.
«وأرسل عبيده ليدعو المدعوين إلى العُرس فلم يُريدوا أن يأتوا» (عدد 3) فقد تم هذا في زمان حياة المسيح. كان اليهود شعبًا مدعوًا من قبل، ولما حضر المسيح بالبركات الجديدة أرسل تلاميذه ليدعوا إسرائيل أن يأتوا إليه لكي يتمتعوا بها كما قد رأينا في هذا الإنجيل، ولكن لم يُريدوا.
«فأرسل أيضًا عبيدًا آخرين قائلاً، قولوا للمدعوين، هوذا غدائي أعددته، ثيراني ومُسمناتي قد ذبحت إلخ» (عدد 4) هذا تم بعد موت المسيح وارتفاعه وحلول روحه حين أخذ الرُسل يدعون إسرائيل إلى التوبة وقبول المسيح ولنُلاحظ أن هذه الدعوة الثانية هي أيضًا لنفس المدعوين الأول. ونرى هنا أيضًا صبر الله الذي صبرهُ على شعبه القديم إذ أرسل لهم أيضًا دعوة أخرى في زمان الإنجيل على يد عبيد آخرين كما عمل معهم قديمًا في زمان الناموس حين كان يرسل لهم عبيده الأنبياء ليطلب منهم ثمرًا، ولكنه في إرساليته لهم الآن لا يطلب منهم شيئًا إلا أن يتمتعوا مجانًا بالبركات التي كان قد أعدها بواسطة موت المسيح من حيث كونه الأساس الوحيد لكل بركاتنا.
«ولكنهم تهاونوا ومضوا واحدًا إلى حقله وآخر إلى تجارته والباقون أمسكوا عبيده وشتموهم وقتلوهم» (عدد 5، 6). هكذا عمل اليهود مع الذين بشروهم بالإنجيل إذ أن البعض لم يُبالوا به، والآخرون اضطهدوا المُبشرين كما كانوا قد اضطهدوا المسيح (تسالونيكي الأولى 14:2، 15).
«فلما سمع المَلِك غضب وأرسل جنوده وأهلَكَ أولئك القاتلين أحرق مدينتهم» (عدد 7) تم هذا بخراب أورشليم، وتشتت اليهود فإن المدينة المحبوبة المُختارة التي بكى الرب يسوع عليها مرة أصبحت أخيرًا مدينة القاتلين فقط (إشعياء 21:1) ولا يُخفى أن جنوده المذكورة هنا هي جيش الرومانيين الذي استخدمه الله بعنايته لخراب أورشليم.
«ثم قال لعبيده وأما العُرس فمُستعد وأما المدعوون فلم يكونوا مُستحقين فاذهبوا إلى مفارق الطرق وكل من وجدتموه فادعوه إلى العرس، (عدد 8، 9). لا يُخفى أن هذا يُشير إلى المناداة بالإنجيل للأمم. وهذا يوافق ما ورد في سفر الأعمال إذ كلما رفض اليهود والإنجيل اتجه الرسل والمبشرون نحو الأمم (أعمال الرسل 46:13؛ 28:28).
«فاذهبوا إلى مفارق الطرق» فالمدينة عبارة عن اليهود جميعًا من حيث امتيازاتهم القديمة كشعب مُختار ومدعوا أيضًا وكان ينبغي للمبشرين الأولين أن ينادوهم أولاً كقول الرب. «وأن يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم مبتدأ من أورشليم» (لوقا 47:24). وأما مفارق الطرق فعبارة عن الناس خارج تلك الامتيازات.
«فخرج أولئك العبيد إلى الطرق وجمعوا كل الذين وجدوهم أشرارًا وصالحين فامتلأ العرس من المتكئين. فلما دخل الملك لينظر المتكئين رأى هناك إنسانًا لم يكن لابسًا لباس العرس. فقال له يا صاحب كيف دخلت إلى هنا وليس عليك لباس العرس. فسكت. حينئذ قال الملك للخدام اربطوا رجليه ويديه وخذوه واطرحوه في الظلمة الخارجية. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان. لأن كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون» (ع10-14)
«وجمعوا كل الذين وجدوهم أشرارًا وصالحين» (عدد 10) أي أتوا بالناس كما هم بغض النظر عن صفاتهم. ولا يعني أن البعض صالحون حسب حالتهم الطبيعية قبل أن تبلغهم الدعوة لأن الشيء الوحيد الذي يؤهل للحضور هو دعوة الملك ولباس العرس.
«فامتلأ العرس من المتكئين» يصدق هذا على مدة المناداة بالإنجيل كلها. قابل هذا مع قوله في مثل الشبكة «فلما امتلأت أصعدوها إلى الشاطئ» (إصحاح 48:13). يجب أن نلاحظ جيدًا أن العرس لا يُعني شيئًا عن دخول السماء فإنه عبارة عن بركات الإنجيل التي يدعو الله الناس إلى التمتع بها هنا، ونرى أن وقت النعمة لابد أن ينتهي ويليه وقت القضاء.
«فلما دخل الملك لينظر المتكئين» (عدد 11) مهما كانت الدعوة عامة ولطيفة فلابد أن صاحب الوليمة ينظر المتكئين، هل افتكروا في ما يليق بشأن العرس الملكي من اللباس المعين لهم أم لا؟
«ورأى إنسانًا هناك لم يكن لابسًا لباس العرس» لا يُخفى أن هذا الإنسان الواحد عبارة عن جميع الذين عملوا مثله وإلا فكنا نستنتج من هذا المثل أنه لا يوجد وقت القضاء إلا شخص واحد قد تهاون بنعمة الله، ولكننا قد عرفنا أن كثيرين سيوجدون على هذه الحالة في ذلك اليوم (انظر إصحاح 21:7-23) ولنلاحظ أيضًا أن المثل لا يفرض مرور زمان طويل، فإن صورة الكلام إنما تشير إلى إعداد العرس وإرسال الدعوة مرة لا بل مرتين للمدعوين ثم إجراء القصاص على الأولين وإرسال الدعوة لآخرين. والحوادث المذكورة تُجرى على الأرض لا في السماء.
«فقال له يا صاحب كيف دخلت إلى هنا وليس عليك لباس العرس؟ فسكت» (عدد 12) كان المدعوون الأولون قد تهاونوا بدعوة الملك وشتموا وقتلوا عبيده وهكذا أظهروا بغضهم له وأما هذا فتهاون بها على كيفية أخرى من حيث أنه لم يفتكر في ما يجب عليه من الاحترام للملك وابنه. ولباس العرس عبارة عن المسيح نفسه، فكل من تظاهر بأنه قبل بشارة نعمة الله ولم يتخذ المسيح برصا له قدام الله فهو على حالة هذا الإنسان الذي دخل العرس بثيابه (بره الذاتي) تاركًا لباس العرس. ويتضح من سكوته أنه لم يكن له أي عذر فيما فعل، لأن لباس العرس كان مما معد للمدعوين مجانًا كالاً كل تمامًا.
«حينئذ قال الملك للخدام اربطوا رجليه إلخ» (عدد 13)، وكلمة «الخدام» في الأصل اليوناني تختلف عن كلمة «العبيد» (عدد 10) لأن العبيد الذين دعوا الناس إلى الوليمة هم المبشرون بالإنجيل أما الخدام الذين يؤمرون بربط المغضوب عليهم وطرحهم في الظلمة الخارجية أو أتون النار فهم الملائكة (إصحاح 40:13-42، 49، 50)، ولا شك أن كل من يؤمن بالمسيح إيمانًا قلبيًا يهلك إلى الأبد بعد موته، ولكن ليس هذا هو الموضوع هنا. قد أجرى الله الحكم على اليهود ومدينتهم لأنهم رفضوا الإنجيل. وهو مزمع أن يحاكم عموم الذين تظاهروا بقبوله مع أنهم لم يخضعوا خضوعًا صحيحًا للمسيح كَبرُهم قد دان الأولين لأنهم لم يدخلوا، وسَيَدِين هؤلاء لأنهم دخلوا، ولكن على هيئة مهيئة لنعمته. وكما أن تلك المحاكمة أجريت على الأرض هكذا سَتُجرى هذه أيضا «فهو ذا لطف الله وصرامته. أما الصرامة فعلى الذين سقطوا. وأما اللطف فلك إن ثبت في اللطف وإلا فأنت أيضًا ستقطع» (رومية 22:11).
«لأن كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون» (عدد 14) قد كرر الرب هذا القول مرارًا عديدة ويصرح به أن كل شيء يتوقف على نعمة الله الفعالة. فإن الدعوة الإنجيلية مهما كانت جامعة ولطيفة لا تكفي وحدها إذ أنه يمكن رفضها صريحًا أو التظاهر بقبولها مع أن القلب لا يزال معتدًا ببره الذاتي. جميع المعترفين بالمسيح قد حضروا بحسب الظاهر إلى العرس الإنجيلي وقد فازوا بامتيازاته ولكن لو دخل صاحب العرس لينظر المتكئين فما أقل عدد الذين قد لبسوا المسيح حقيقة، المسيح الذي يؤهلهم وحده أمام الله. ولكن القصد الخاص من المثل هو أن يُظهر أنه لابد من إتيان المحاسبة عند انتهاء وقت النعمة.
يذكر لوقا في (إصحاح 15:14-24) مثلاً مشابهًا ولكن على هيئة أخرى حيث يُعَبر عن البركات المتعلقة بحضور المسيح بعشاء عظيم ليس بعرس ابن ملك، ولا يذكر المحاكمة إلا أن الذين تهاونوا بالدعوة لا يذوقون من العشاء لأن قصد الوحي بإدراجه ذلك المثل في لوقا إيضاح النعمة الإلهية فقط. وأما في متى فيوضح هذا مع بعض معاملات الله على الأرض لليهود وللأمم أيضًا، كل منهما بحسب نظامه أو التدبير الديني الرسمي الذي له من الله. ومما يؤيد أن مثل متى غير مثل لوقا ليس فقط إن مثل ضرب في الهيكل في أورشليم (لوقا 23:21) أما مثل لوقا فضرب في بيت أحد الفريسيين أثناء صعود الرب إلى أورشليم (لوقا 22:13 مع1:14) بل أيضًا أن الأول غداء أما الثاني فعشاء. وكان الداعي في الأول عبيدًا كثيرين أما في الثاني فبعد واحد. في الأول تعدى المدعوون على الداعين أما في الثاني فقد اعتذروا فقط. في الأول أملك المدعوون، كما في مثل الكرم (إصحاح 41:21) أما في الثاني فقد حرموا فقط ولكن نهائيًا من أكل العشاء.

رد المسيح على الفريسيين والهيرودسيين فيما يتعلق بما يتعلق بما لقيصر وما لله

(عدد 15-22؛ مرقس 13:12-17؛ لوقا 20:20-26)

«حينئذ ذهب الفريسيون وتشاوروا لكي يصطادوه بكلمة فأرسلوا إليه تلاميذهم مع الهيرودسيين قائلين، يا معلم نعلم أنك صادق وتُعلم طريق الله بالحق ولا تبالي بأحد لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس. فقل لنا ماذا تظن؟ أيجوز أن تُعطى الجزية لقيصر أم لا؟ فعلم يسوع خبثهم وقال، لماذا تجربونني يا مراؤون؟ أروني معاملة الجزية. فقدموا له دينارًا. فقال لهم، لمن هذه الصورة والكتابة؟ قالوا له، لقيصر. فقال لهم، أعطوا إذا ما لقيصر لقيصر وما لله لله. فلما سمعوا تعجبوا وتركوه ومضوا» (عدد 15-22).
كان اليهود منقسمين إلى مذاهب مختلفة يفتخر كل مذهب على الآخر في ما اختلف به عنه ولكنهم كانوا جميعًا مخطئين أمام الله في ذات الأشياء التي كانوا مفتخرين بها. كانوا تحت نير الأمم من زمان سبي بابل. وكان ذلك الاستعباد أعظم عار لهم كشعب منتسب لله. وكان يجب أن يعترفوا بأن خطاياهم هي التي جلبت عليهم هذا القصاص. ولم يكن منهم في كنعان سوى بقية صغيرة ردها الله من السبي، وحفظها ليأتي منها بالمسيح وليقدمه لهم كملكهم الشرعي. ولكنهم على قدر ما كانوا مفتخرين بامتيازاتهم كانوا منحطين في أخلاقهم وزادوا على ذلك أنهم رفضوا رجاء إسرائيل الحقيقي. كان يليق بهم أن يتواضعوا تحت يد الله القوية حاملين نيرهم القاسي إلى أن ينقذهم الله. فالهيرودسيون تساهلوا في شأن عبودية إسرائيل وقبلوا أسيادهم الأجنبيين كما لو كان الاستعباد ودفع الجزية من الأمور التي يليق بهم وهكذا خانوا الله مع أنهم كانوا قد فقدوها بحكم الله العادل لأجل خطاياهم. ومع أنهم أبغضوا الهيرودسيين كل البغض وحسبوهم خونة لله منافقين دائرين مع الزمان إلا أنهم اتفقوا معهم في مقاومة الرب.
«أيجوز أن تُعطى الجزية لقيصر أم لا؟ أرسلوا جواسيس من تلاميذهم (لوقا 20:20) مع الهيرودسيين إلى يسوع لكي يصطادوه بكلمة، وظنوا بحسب حماقة أفكارهم أنه لا يستطيع أن ينجو من شبكتهم، فإنه كيفما كان جوابه لهم سيكون بحسب فكرهم ملومًا لأنه إن قال لا يجوز أن تُعطى الجزية لقيصر يشتكي عليه الهيرودسيون للحكام كخائن للقيصر ومهيج فتنة عليه كما افتروا عليه كلهم بذلك فيما بعد (لوقا 1:23، 5؛ يوحنا 12:19) وإن قال يجوز أن تُعطى له الجزية فيكون في نظرهم قد أنكر حقوقه كالوارث الشرعي لعرش داود، وفي هذه الحالة لا يكون هو مخلص إسرائيل الذي ينقذهم من نير الأمم ظاليمهم، ويستطيع الفريسيون حينئذ أن يبرهنوا من النبوات على أنه مُضل مادام ليس له صفات القوة التي يجب توافرها في مسيحهم الحقيقي.
«لمن هذه الصورة والكتابة؟ قالوا له، لقيصر، فقال لهم، أعطوا إذا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» فبجوابه هذا وضع كل شيء في محله. فترك إسرائيل تحت يد الإمبراطور الروماني الذي كانت معاملته (أي عملته) هي المتداولة بينهم وكأنه يقول لهم مادام الله سلط عليكم قيصر بسبب خطاياكم فاخضعوا لله والدينار الذي لقيصر إذ عليه صورته أعطوه لقيصر ومن الجهة الأخرى لله حق عليكم أن تحبوه وتطيعوه فيما له كما قال في موضع آخر عن المطلوب منهم أيضًا بالنسبة له «هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي هو أرسله» (يوحنا 29:6).
ويستفاد من عبارة الرب هذه لهم أن المسيحي وإن كان ليس من هذا العالم (يوحنا 14:17)، وغريب فيه (بطرس الأولى 11:2)، وانتسابه هو للسماء (فيلبي 20:3) إلا أنه من واجبه أن يخضع للسلاطين الكائنة التي هي مرتبة من الله حتى أن من يُقاوم ترتيب الله (انظر رومية 1:13-7؛ بطرس الأولى 13:2-17).

رد المسيح على الصدوقيين فيما يتعلق بخلود النفس وقيامة الجسد

(عدد 23-33؛ مرقس 18:12-27؛ لوقا 27:20-38)

«في ذلك اليوم جاء إليه الصدوقيون الذين يقولون ليس قيامة. فسألوه قائلين يا مُعَلم قال موسى إن مات أحد وليس له أولاد يتزوج أخوه بامرأته ويُقيم نسلاً لأخيه، فكان عندنا سبعة إخوة وتزوج الأول ومات. وإذا لم يكن نسل ترك امرأته لأخيه. وكذلك الثاني والثالث إلى السبعة. وآخر الكل ماتت المرأة أيضًا. ففي القيامة لمن من السبعة تكون زوجة فإنها كانت للجميع» (عدد 23-28). كان الصدوقيون مَذهبًا ثالثًا من اليهود، واتصفوا برفضهم الاعتقاد بقيامة الأموات والمُحتمل أنهم رفضوا الوحي أيضًا وخلود النفس لأنهم قاوموا الفريسيين في كل عقيدة دينية. وكانوا بالحقيقة هم الكفرة بين اليهود (انظر أيضًا أعمال الرسل 8:23) ولكن البحث بتفصيل في تاريخهم وآرائهم لا ينفعنا. فأتى قوم منهم إلى الرب لكي يُجربوه بحكمتهم فما أوقح الإنسان لأنه لا يمتنع عن أن يُجاوب الله نفسه! وكانت مشكاتهم هذه بحسب أفكارهم دحضًا كاملاً لعقيدة القيامة. وطالما جادلوا بها أخصامهم وربما لم يوجد أحد منهم أمكنه أن يرد عليها ردًا سديدًا. وأما الرب فأبطلها بكل سهولة وبرهن على أنها قائمة على أساس فاسد.
«فأجاب يسوع وقال لهم تضلون إذ لا تعرفون الكُتب ولا قوة الله. لأنهم في القيامة لا يُزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائكة الله في السماء» (عدد 29، 30) فهذا هو الجواب لسؤالهم «ففي القيامة لمن من السبعة تكون زوجة؟» «الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة، ولا يقدر أن يعرفه لأنه إنما يحكم فيه روحيًا» (كورنثوس الأولى 14:2). كان هؤلاء طبيعيين، وقاسوا كل شيء على الحالة الحاضرة، ورفضوا كل ما يوافق العقل بينما قيامة الأموات من الحقائق التي لا نقدر أن نعرفها إلا بإعلان من الله ولا تتم إلا بقوته.
والرب بجوابه هذا أظهر أن حالة المُقامين من الأموات بقوة الله في القيامة الأولى، ستكون حالة سامية مُقدسة فيها يكون كل شيء مُنتسب للأرض والزمان قد زال وانتهى إلى الأبد، حتى الترتيبات المُرتبة من الله للإنسان هنا كالزواج سوف لا يوجد لها موضع هناك، فإن الجسد نفسه يتغير ويصير على صورة جسد مجد الرب (فيلبي 1:3، 21؛ كولوسي 44:15) لكي يكون على حالة تُناسب المجد السماوي. ولا يوجد ناموس من نواميس الطبيعة يوجب إقامة هذه الأجساد التُرابية من بعد ما انحلت واندثرت وربما تفرقت موادها الأصلية إلى الأربع الرياح. ولكن الرب سيُقيمها بحسب عمل استطاعته أن يُخضع لنفسه كل شيء.
«وأما من جهة قيامة الأموات، أفما قرأتم ما قيل لكم من قِبل الله القائل أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب؟ ليس الله إله أموات بل إله أحياء فلما سمع الجموع بُهتوا من تعليمه» (عدد 31-33).
عاد الرب فأثبت حقيقة وأظهر أنها من الإعلانات القديمة، ومن أصول إيمانهم كنسل إبراهيم. كان الله قد اختار آباءهم وأقامهم أمامه في نسبة خاصة معه يعامل نسلهم بموجبها إلى الأبد. فبعد موت إبراهيم وإسحاق ويعقوب بزمان طويل قال الله لموسى «أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب» وأضاف إلى ذلك قوله «هذا اسمي إلى الأبد. وهذا ذكري إلى دور فدور» (خروج 15:3) فاسمه التذكاري يدحض كفر الصدوقيين لأنه لو كان إبراهيم وإسحاق ويعقوب قد كفوا بالموت عن الوجود لما كان من الأمور اللأئقة بالله أن يقول لموسى، أنا إلههم لأنه ليس إله غير الموجودين. كان يمكن أن يقول، أنا كنت إلههم. فإذًا الموت أو انحلال الجسم الفاني لم يقطع العلاقة الكائنة بين الله وبينهم وهذه العلاقة نفسها توجب إقامتهم لأن الموت حالة استثنائية دخيلة على الإنسان لأن الله خلقه جسدًا ونفسًا وروحًا. ومن ثم فلابد أن يقيم الجسد حتى يكون مفديوه أمامه إلى الأبد في حالة الكمال بحسب القصد الذي قصده للإنسان لما خلقه غير أنه تعالى في القيامة سيغير الأجساد بقوته لتكون على هيئة تناسب المجد (كورنثوس الأولى 35:15-55) ولنا مثال ذلك في جسد الرب بعد قيامته. فقوله «ليس الله إله أموات بل إله أحياء» يُشير إلى هذه النسبة الحقيقية الدائمة بين الله والإنسان خليقته قبل وأثناء وبعد الموت.

الوصيتان العظيمتان

(عدد 34-40؛ مرقس 28:12-34؛ لوقا 25:10-28)

«أما الفريسيون فلما سمعوا انه أبكم الصدوقيين اجتمعوا معًا وسأله واحد منهم وهو ناموسي ليجربه قائلاً. يا معلم. أية وصية هي العظمى في الناموس؟ فقال له يسوع، تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هي الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلها. تحب قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء».
«أية وصية هي العظمى في الناموس؟ » لا يُخفى أن الفريسيين افتخروا بالناموس واستعملوه كقائمة أعمال صالحة يصنعون بها لنفسهم برًا قدام الله وطالما تجادلوا معًا من جهة المسألة الباطلة وهي، ما هي الأعمال الفضلى التي إذا عملها الإنسان يكون له فضل أكثر عند الله؟ كأنه يمكن لهم أن يقفوا أمامه بحسب أعمالهم بل ويمتاز بعضهم على البعض واتضح أنهم لم يعرفوا الناموس ولا ما هو الإنسان «لأن بالناموس معرفة الخطية» (رومية 20:3) وليس هو للإنسان سوى الدينونة والموت (كورنثوس الثانية 4:3-9) وعوضًا عن أن يكسب به البركة إنما يحصل على اللعنة.
ولم يكن سؤالهم عن إخلاص بل لكي يجربوا الرب على أمل أنهم يحصلون على شيء من جوابه يمكنهم أن يشتكوا به عليه. وأما الرب فقد اقتبس في جوابه شهادتين من التوراة، من (تثنية 5:6؛ لاويين ا18:19). واستخرج منهما جوهر الناموس بحسب فكر الله. فيتضمن في الأولى ما يجب على الإنسان من نحو الله وهو محبته له تعالى من كل القلب ومن كل النفس ومن كل الفكر، وفي الشهادة الثانية يتضمن ما يجب على الإنسان من نحو الآخرين وهو محبته لقريبه كمحبته لنفسه.
والرب في جوابه قد ابطل أيضًا تقسيمهم الناموس إلى وصايا متفاوتة، عظمى وصغرى (إصحاح 17:5-20) لأنه إن كانت الوصية الواحدة عظيمة جدًا فالثانية مثلها. وإن كان الله يأتينا من باب الطلب فإنه لا يمكن أن يطلب أقل من الكمال في كل ما وضعه علينا. ومن عثر في نقطة واحدة فقد صار مجرمًا في الكل (يعقوب 10:2).
والرب يسوع في تقسيمه لهم الناموس إلى وصيتي المحبة لله والمحبة للقريب أثبت عليهم كسرهم للناموس في رفضهم لشخصه إذ كان هو الله والقريب في شخص واحد.
«بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله» لأن الأولى تشمل الوصايا الأربع الأولى منه. والثانية تشمل الوصايا الست الباقية.
«والأنبياء». كان الأنبياء الذين من وقت إلى آخر يدعون إسرائيل إلى حفظ الناموس، ويوبخونهم على مخالفتهم إياه كما يقول الرب هنا «بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء» فعبثًا ينتظر الإنسان أن يقوم بمطلوب الناموس لكي يحصل بر يؤهله للقبول عند الله، والناموس لا ينفعه ولو انقسم إلى أقسام متفاوتة القيمة لأنه لا يقدر أن يحفظ أقل وصية من وصاياه، ويظهر اعوجاج قلبه في زعمه أنه يقدر على ذلك، وفي بحثه في ما هي الوصية العظمى كأنه يستطيع أن يكتسب بحفظها برًا أزيد.

امتحان المسيح لممتحنيه

(عدد 41-46؛ مرقس 35:12-37؛ لوقا 41:20-44)

«وفيما كان الفريسيون مجتمعين سألهم يسوع قائلاً ماذا تظنون في المسيح ابن من هو؟ قالوا له ابن داود. قال لهم فكيف يدعوه داود بالروح ربًا قائلاً. قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك؟ فإن كان داود يدعوه ربًا فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطيع أحد أن يجيبه بكلمة. ومن ذلك اليوم لم يجسر أحد أن سأله بتةً».
كان رعاة إسرائيل ومعلموهم قد حضروا إلى الرب ليقاوموه وكانوا على ثلاثة مذاهب الهيرودسيين والصدوقيين والفريسيين وافرغوا جعبة حيلهم لتخطئته ولو بكلمة ولم يقدروا. كان قصدهم أن يبينوا أنه مُعَلم مُضل ولكنه أبكمهم واظهر عدم أهليتهم للوظيفة التي اتخذوها كرعاة شعب الله قابل هذا مع قوله «وأبدت الرعاة الثلاثة في شهر واحد وضاقت نفسي بهم وكرهتني أيضًا نفسهم. فقلت لا أرعاكم من يَمُت فليمت ومن يُبد فليبد والبقية فليأكل بعضها لحم بعض» (زكريا 8:11، 9). فالويل لإسرائيل الرافضين لراعيهم الحقيقي لانقيادهم إلى رُعاتهم المنافقين فليس لهم الآن إلا الحكم المتضمن في آخر هذه الشهادة بحيث يكون كقطيع غنم متروك لا بل يأكلون بعضهم بعضًا كما صار فيهم بعد رفض المسيح وموته
«وفيما كان الفريسيون مجتمعين سألهم إلخ» كان الفريسيون في ذلك الوقت المتقدم بين اليهود فسألهم الرب سؤالاً بسيطا عن المسيح «ماذا تظنون في المسيح؟ » أي في المسيح المتنبأ عنه. فإنهم كانوا قد رفضوا يسوع الناصري زاعمين أنه ليس متصفًا بصفات المسيح الحقيقي فإذًا لابد وأنهم قد بحثوا بحثًا دقيقا في جميع النبوات المتعلقة بهذا الموضوع.
«ابن مَنْ هو؟ » لقد أجابوا على سؤاله الأول هذا بلا توقف قائلين انه «ابن داود» ولكنهم عجزوا عن الإجابة على سؤاله الثاني الذي بناه على (مزمور 1:110) وهو «كيف يدعوه داود بالروح ربًا قائلاً قال الرب لربي؟ » لأنهم لم يعرفوا حقيقة شخص المسيح بحسب ما ورد لهم عنه في كتبهم. لأنه وإن كان ينبغي حسب نبوات الكتاب عنه رب داود أيضًا بحسب اللاهوت لكونه هو بذاته منذ الأزل الله المبارك إلى الأبد.
ويجب أن نلاحظ أيضًا أن هذه الشهادة أتت في وقتها ومحلها لأنه قد رُفض من مملكته على الأرض وهو مزمع أن يموت ويقوم ويرتفع إلى السماء والله مزمع أن يقول له حينذاك «اجلس عن يميني» (قابل أعمال الرسل 30:2-35) ويراد باليمين أعظم مكانة للإكرام. لم يكن له قبول عند إسرائيل حينئذ ليجلس على كرسي داود ولكنه مزمع أن يفوز بالقبول في السماء ويجلس هناك كرب داود على عرش أبيه
«حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك» فسيظل جالسًا هناك إلى أن يضع الآب أعداءه تحت قدميه (عبرانيين 13:1؛ 12:10، 13) وأعداؤه هم اليهود الذين لم يريدوا انه يملك عليهم في ذلك الوقت (لوقا 27:19). على انه سيكون له أعداء كثيرون غيرهم كما لا يُخفى.
«ومن ذلك اليوم لم يجسر أحد أن سأله بتة» لم يقدر أحد من هؤلاء المقاومين المنافقين أن يسأله سؤالاً بعد ذلك خوفا من أن يضيع صيتهم الكاذب عند الشعب. وفضلوا السكوت على الكلام مادام الكلام يفضح جهالتهم.

متي21

الإصحاح الحادي والعشرون

المسيح يُقدم نفسه لأورشليم كمَلِكها الشرعي

(عدد 1-11؛ مرقس 1:11-11؛ لوقا 29:19-40؛ يوحنا 12:12-9)

«ولما قربوا من أورشليم وجاءوا إلى البيت فاجي عند جبل الزيتون حينئذ أرسل يسوع تلميذين قائلاً لهما اذهبا إلى القرية التي أمامكما. فللوقت تجدان أتانًا مربوطة وجحشًا معها فَحِلاهما وأتياني بهما. وإن قال لكما أحد شيئًا فقولا الرب مُحتاج إليهما. فللوقت يرسلهما. فكان هذا كله لكي يتم ما قيل بالنبي القائل. قولوا لابنة صهيون هوذا مَلِكُكِ يأتيكِ وديعًا راكبًا على أتان وجحش ابن أتان. فذهب التلميذان وفعلاً كما أمرهما يسوع. وأتيا بالأتان والجحش ووضعا عليهما ثيابهما فجلس عليهما. والجمع الأكثر فرشوا ثيابهم في الطريق. وآخرون قطعوا أغصانًا من الشجر وفرشوها في الطريق. والجموع الذين تقدموا والذين تبعوا كانوا يصرخون قائلين، أُوصنا لابن داود. مُبارك الآتي باسم الرب، أُوصنا في الأعالي. ولما دخل أورشليم ارتجت المدينة كلها قائلة، مَنْ هذا؟ فقالت الجموع هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل»
«ولما قربوا من أورشليم ..إلخ» كانت أعمال يسوع المسيح دائمًا في وقتها وفي محلها. وكان الوقت قد حان لدخوله إلى مدينة داود على هيئة ملكية رسمية بمحفل عظيم من شعبه لكي يقبلوه أو يرفضوه علنًا ورسميًا ولم يفعل ذلك قبل الآن إذ كان عليه أولاً أن يعلن حقيقة أنه الملك الشرعي بتعاليمه ويُقيم الدليل عليها بمعجزاته.
«بيت فاجي» معناها بيت الفجِّ أو التين النيئ وهي في الطريق بين أريحا وأورشليم، وبالقرب منها شمالاً بيت عنيا.
«جبل الزيتون» هو شرقي أورشليم يفصل بينهما وادي قَدرُون (يوحنا 1:18) على بعد ميل. وهذه المسافة تعتبر عند اليهود سفر سبت (أعمال الرسل 12:1). وعلى سفحه الغربي يقع بستان جثسيماني (فابل لوقا 39:22 مع 32:14). وعلى سفحهِ الشرقي بيت فاجي من الجنوب وبيت عنيا من الشمال.
«تجدان أتانًا مربوطة وجحشًا» اقتصر مرقس ولوقا على ذكر الجحش فقط. وزادا على قول مَتَّى أنه لم يجلس على ذلك الجحش أحد قبل المسيح (عدد 2).
«فللوقت يرسلهما» (عدد 3) اتخذ المسيح سيادته المُطلقة وقدرته الإلهية ليُهيئ كل الظروف المُتعلقة به حسب نبوة زكريا.
«فكان هذا كله لكي يتم ما قيل بالنبي القائل» (عدد 4) أصل النبوة المُقتبسة هنا هو «ابتهجي جدًا يا ابنة صهيون اهتفي يا بنت أورشليم. هوذا مَلكُكِ يأتي إليك، هو عادل ومنصور، وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان» (زكريا 9:9). وقد ترك الوحي لفظتين من كلام النبي هما «عادل ومنصور» لأنه لم يحضر وقتئذ مُجريًا العدل ومُنتصرًا على أعدائه. لا شك أنه سيأتي هكذا في المُستقبل (انظر مزمور 2، 45؛ رؤيا 11:19-21). وابنة صهيون التائبة المُتذللة ستُرحب به ترحيبًا قلبيًا. ولكنه أتاها أولاً بالوداعة والتواضع فلم تقبله.
على أن الجموع الذين كانوا يُرافقونه في الطريق تأثروا تأثُرًا وقتيًا وأظهروا علامة الفرح والخضوع له ولكن غيرتهم الشديدة وإن كانت في محلها لكنها لم تلبث أن فترت تجاه مُقاومة الرؤساء.
«والجمع الأكثر فرشوا ثيابهم في الطريق» (عدد 8) صارت قلوب بني إسرائيل مُنتدبة وخاضعة لأمره إلى برهة من الزمان. أخذهم فرح عظيم مؤقتًا فرحبوا بمَلِكهم كمن أتاهم وديعًا راكبًا على أتان وجحش ابن أتان. ولكن فرحهم لم يُمكن أن يدوم لأنهم لم يكونوا تائبين.
«كانوا يصرخون قائلين، أُوصنا» (عدد 9) اقتبسوا شهادة جميلة ومُوافقة من (مزمور 26:118) ومعنى «أُوصنا» «خلص الآن» لا شك أن هذا المزمور كله سيتم في إسرائيل في المُستقبل. واعترافهم المُتضمن في أوله يُهيئهم ليقبلوا مسيحهم ويُرحبوا به بحسب الكلام في آخره.
«ولما دخل أورشليم ارتجت المدينة كلها قائلة، مَنْ هذا؟» قابل هذا مع اضطراب المدينة وقت أن بلغها الخبر بولادته (إصحاح 3:2). ولكن أورشليم لم تعرف إلهها ومَلِكها. فاضطربت عند ولادته العجيبة وارتجت عند دخوله إليها بموكب مَلَكِي لأنها لا تزال مركز الكتبة والفريسيين ولا تنتبه ليوم افتقادها.
«فقالت الجموع، هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل» (عدد 11). فلم يكن في نظرهم سوى نبي. فإنهم مع كل تهليلهم لم يروا«عمانوئيل» الذي تفسيره «الله معنا» في ذلك الشخص الوديع. ستعود أورشليم ترتج بمجيء المسيح إليها وتتهيأ للخضوع له كَمَلِك المجد قائلة «ارفعنَ، أيتها الأرتاج رؤوسكن وارتفعن، أيتها الأبواب الدهريات، فيدخل مَلِك المجد. مَنْ هو هذا مَلِك المجد؟ رب الجنود هو مَلِك المجد» (مزمور 7:24-10).

تطهير الهيكل للمرة الثانية وشفاء عُمي وعُرج

(عدد 12-17؛ مرقس 15:11-18؛ لوقا 45:19-47)

«ودخل يسوع إلى هيكل الله وأخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل وقَلَبَ موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام. وقال لهم، مكتوب بيتي بيت الصلاة يُدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص» (عدد 12، 13).
كان قد طَهرَ الهيكل في أول خدمته انظر (يوحنا 14:2-16). وإنما قال وقتئذ «لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة». ولكن الإصلاحات الدينية لا تدوم. معلوم أن الأشياء التي كانوا يُتاجرون فيها كانت تتعلق بالعبادة وبهذا أراحوا ضمائرهم مع أنهم جعلوا بيت الله بيت تجارة. وكانوا كل واحد يطلب الأرباح المالية فقال لهم الرب هذه المرة «وأنتم جعلتموه مغارة لصوص» (قابل أرميا 11:7). وهذا يُظهر أن حالتهم تطورت إلى أسوأ. فطَهر الهيكل بموجب سُلطانه وحقوقه الإلهية. وكان عمله هذا من الأعمال القضائية. كان قد دخل المدينة اليوم السابق كالسيد المُطلق السلطان، ومَلِك صهيون (مزمور 2:48) ثم في اليوم التالي افتقد الهيكل وتصرف فيه كما يليق بشأن صاحبه قابل هذا مع (مرقس 11:11-9).
«وتقدم إليه عُمي وعُرج في الهيكل فشفاهم. فلما رأى رؤساء الكهنة والكتبة العجائب التي صنع، والأولاد يصرخون في الهيكل ويقولون، أُوصنا لابن داود. غضبوا وقالوا له، أتسمع ما يقول هؤلاء؟ فقال لهم يسوع، نعم. أما قرأتم قط من أفواه الأطفال والرضع هيأت تسبيحًا. ثم تركهم وخرج خارج المدينة إلى بيت عنيا. وبات هناك» (عدد 14-17).
كلما تمجد يسوع اغتاظ أولئك الرؤساء العظام. فأجابهم من المزمور الثامن الذي يُصرح أنه يتمجد كابن الإنسان فوق السماوات. وأما أضداده على الأرض فيُسكتهم الله حتى بتسبيحات الصغار الذين كانوا في تلك الساعة ينطقون بما يُناسب مجده. راجع ما سبق فقاله في شأن الأولاد الصغار (إصحاح 14:19). ونرى هنا الفرق العظيم بين أفكار الصغار وأفكار الكبار. فقد امتلأ الصغار تسبيحًا بإلهام من الله. في حين امتلأ الكبار غيظًا وغضبًا. وتآمُرًا على قتله (يوحنا 19:12؛ مرقس 18:11) فيا للعار! (انظر إصحاح 25:11).

لعنه للتينة العديمة الثمر

(عدد 18-22؛ مرقس 12:11-14، 20-44)

«وفي الصُبح إذ كان راجعًا إلى المدينة جاع. فنظر شجرة تين على الطريق وجاء إليها فلم يجد شيئًا إلا ورقًا فقط. فقال لها، لا يكن منكِ ثمر بعد إلى الأبد. فيبست التينة في الحال. فلما رأى التلاميذ ذلك تعجبوا قائلين كيف يبست التينة في الحال؟». هذه التينة ترمز إلى إسرائيل كأُمة مُعترفة بالله ومُلتزمة بأن تأتي بثمر له وإلا فهي تُعطل أرضه. (انظر يوئيل 7:1؛ لوقا 6:13-9). وكان قد طلب منهم ثمرًا زمامًا طويلاً ولم يجد. وكان من جملة مقاصده بإرساله المسيح إليهم أن يمتحنهم امتحانًا نهائيًا ليُظهر أيمكن لإسرائيل، أو بالأحرى للإنسان بحسب الجسد. أن يأتي بثمر أم لا. ولكن بعد كل تعبه فيهم لم يجد إلا ورقًا فقط وهو عبارة عن المظاهر الدينية التي كانت موجودة بكثرة. وإذ ذاك حكم الرب باللعنة على تلك الأمة الغير المُثمرة. قائلاً«لا يكن منكِ ثمر بعد إلى الأبد» هذا حُكمهُ على إسرائيل بحسب الجسد وبالتبعية على الإنسان الساقط أيضًا لأنه لا يمكن لأحد أن يأتي بثمر لله إن لم يولد من فوق، كان الله قد امتحن البشر بامتحانات عديدة منذ السقوط إلى وقت حضور المسيح. ولكن رفْضهم إياه قد برهن تمامًا على أنه لا يوجد فيهم شيء صالح لله. وانتظار الصلاح من الإنسان الغير المُتجدد بالروح القدس كانتظار الثمر من تلك التينة المحكوم عليها بأن لا يكون منها ثمر بعد إلى الأبد. لا شك أن التينة الإسرائيلية ستعود تفرخ وتُخرج أغصانًا في المُستقبل (لوقا 29:21). ويكون ذلك من العلامات التي تدل على أن صيف دينونة الله قد اقترب للأُمم ولإسرائيل أيضًا، ويكون إجراء هذه الدينونة بشير قُرب ظهور الرب وإقامة الملكوت (لوقا 31:21). لأنهم سيرجعون إلى أرضهم بالقوة البشرية مُصرين على عدم إيمانهم ولكنهم سيعودون للدوس والدينونة ولا يأتون بثمر إلى أن يكونوا قد ماتوا كأُمة وصاروا كأنهم قاموا من الأموات وحينئذ يجعل الله روحه فيهم ويكتب نواميسه على قلوبهم «في المستقبل يتأصل يعقوب. يزهر ويفرع إسرائيل ويملأون وجه المسكونة ثمارًا» (إشعياء 6:27 انظر أيضًا حزقيال 22:36-38؛ 1:37-27؛ دانيال 1:12-3).
لا حاجة إلى أن أقول أن الرب لم يكن منتظرًا ثمر الأوان من تلك التينة. لأن الوحي يذكر صريحًا أنه لم يكن وقت التين (مرقس 13:11). ولكن مادامت التينة قد أورقت كان ينتظر أن يجد بها باكورة التين لذلك قيل «جاء لعله يجد فيها شيئًا» من التباشير. وعلى فقد قصد المسيح بالحادثة إفادتنا على سبيل الرمز.
«فلما رأى التلاميذ ذلك تعجبوا قائلين. كيف يبست التينة في الحال؟ فأجاب يسوع وقال لهم، الحق أقول لكم إن كان لكم إيمان ولا تشكون فلا تفعلون أمر التينة فقط بل إن قلتم أيضًا لهذا الجبل انتقل وانطرح في البحر فيكون. وكل ما تطلبون في الصلاة مؤمنين تنالونه» (عدد 20-22).
«فلما رأى التلاميذ إلخ» لا يقصد في اليوم التالي (مرقس 20:11) سبق الرب وذكر لهم فاعلية الإيمان الثابت في (إصحاح 20:17، 21). تعجبوا لأن التينة يبست بحكم الرب عليها، وكان ذلك من أعمال القوة. فقال لهم الرب انه إن كان فيهم إيمان ثابت بدون تردد وشك يستطيعون إجراء أعمال كهذه. وليس بأمر قضائي بل بصلاة الإيمان لأنه لم يقصد أن يرسلهم ليحكموا ويلعنوا بل ليخدموا حاجات الناس بأعمال الرحمة. ويجب أن نلاحظ هنا صفات أعمال المسيح من حيث أنها كانت غالبًا متصفة بالرحمة وكان من النادر أن يُجري عملاً من باب القضاء واللعن، كعمله في التينة، وفي قطيع الخنازير وفي تطهيره للهيكل.
«وكل ما تطلبونه في الصلاة مؤمنين تنالونه». يدلهم بهذا على كيفية الخدمة المطلوبة منهم وصفتها بحيث يجب عليهم أن يمارسوها بذلك الروح عينه الذي كان سيدهم متصفًا به في أعماله. وقد علموا هكذا فيما بعد. ولذلك قالوا «وأما نحن فنواظب على الصلاة وخدمة الكلمة» (أعمال الرسل 4:6)

اعتراض الرؤساء على سلطانه

(عدد 23-27؛ مرقس 27:11-33؛ لوقا 1:20-8)

«ولما جاء إلى الهيكل تقدم إليه رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب وهو يُعَلم، قائلين بأي سلطان تفعل هذا؟ ومن أعطاك هذا السلطان؟ فأجاب يسوع وقال لهم، أنا أيضًا أسألكم كلمة واحدة فإن قلتم لي عنها أقول لكم أنا أيضًا بأي سلطان أفعل هذا. معمودية يوحنا، من أين كانت؟ من السماء أم من الناس؟ ففكروا في أنفسهم قائلين إن قلنا من السماء، يقول لنا فلماذا لم تؤمنوا به؟ وإن قلنا من الناس، نخاف من الشعب لأن يوحنا عند الجميع مثل نبي. فأجابوا يسوع وقالوا، لا نعلم. فقال لهم هو أيضًا، ولا أنا أقول لكم بأي سلطان أفعل هذا» (عدد 23-27).
فأصابوا في تفكرهم أنه ينبغي أن يكون سلطان لمن يتخذ على عاتقه أن يُعَلّم ويُرشد الآخرين. لأن الأمر هكذا بالفعل. ولكنهم اخطأوا بجعلهم أنفسهم مصدر هذا السلطان لأن السماء هي مصدره الوحيد. وإن كان الله يُقيم أنبياء ومُعَلِمين في أي وقت كان، فلابد أن يُصادق على خدمتهم ويؤكد لشعبه الخاضع لكلمته أنهم من الله. لم يكن يوحنا قد صنع آية واحدة ومع ذلك فقد عَمِلت كرازته تأثيرًا عميقًا في ضمائر البسطاء ولم يرفضها إلا الرؤساء المتكبرين الذين أرادوا أن يختلسوا حقوق السماء ولا يدعون أحدًا يُعلم ولو كان مرسلاً من قِبل الله، إن لم يصادقوا عليه، كأن الله لا يقدر أن يُعلم شعبه بدون مصادقتهم. كل من يدَّعي أن له سلطانًا على الآخرين في شأن الخدمة الإلهية فقد نسى هذه الحقيقة الخطيرة أن الله لم يفوِّض سلطانه إلى أحد، ولا يمكن أن يتخلى عن شيء منه. لأنه لو عمل ذلك لأمسينا في الظلام الدامس الدائم إلى الأبد. لأنه من المستحيل أن الرؤساء يدعون النور الإلهي يدخل بين الذين قد تمكن فيهم الظلام سلطانهم المُختَلس. هكذا كان المر حين أرسل الله ابنه الحبيب كالنور الحقيقي إلى العالم. ولا يزال الأمر كذلك إلى الآن. فلما تعرضوا للرب بهذا السؤال، كأن لهم حقًا بأن يفحصوا مُعلمي إسرائيل، أجابهم جوابًا من شأنه أن يمتحنهم من جهة أهليتهم لهذه الوظيفة التي اتخذوها فإن كانوا بالحقيقة أهلاً لفحصه فلابد أن يكونوا قد جزموا رسميًا في إرسالية يوحنا المعمدان. فمن أعطى سلطانًا ليوحنا؟ لأنه من الأمور الواضحة أنه لم يتوظف من البشر. فأُخذوا بالشبكة التي قصدوا أَخْذ الرب بها وقالوا لا نعلم. فإذ ذاك لا يليق به أن يُجيبهم عن سلطانه لأنهم بحسب إقرارهم ليسوا أهلاً أن يجزموا في مسألة كهذه. ونرى أيضًا أن الذين يترأسون على شعب الله بغير حق يخافون منه، مع أنهم حسب الظاهر يتسلطون عليه. والسبب لخوفهم هو شعورهم الداخلي بأن سلطانهم كاذب وليس له أساس إلهي.
«ماذا تظنون؟ كان لإنسان ابنان فجاء إلى الأول وقال، يا ابني، اذهب اليوم اعمل في كرمي. فأجاب وقال، ما أُريد. ولكنه ندم أخيرًا ومضى. وجاء إلى الثاني وقال كذلك. فأجاب وقال، ها أنا يا سيد ولم يمضِ. فأي الاثنين عَمِلَ إرادة الآب؟ فقالوا له، الأول. قال لهم يسوع، الحق أقول لكم، إن العشارين والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله. لأن يوحنا جاءكم في طريق الحق فلم تؤمنوا به. وأما العشارون والزواني فآمنوا به وأنتم إذ رأيتم لم تندموا أخيرًا لتُؤمنوا به» (عدد 28-32).
كان الرب بحكمته الكاملة قد جعل رؤساء إسرائيل يُظهرون أنفسهم قدام الجموع أنهم ليسوا سوى قادة عميان. وفي هذا المَثل برهنَ أنهم أردأ من العشارين والزواني وأبعد منهم عن ملكوت الله. كان يوحنا قد جاء إلى إسرائيل في طريق الحق أي في طريق البر إذ وبخهم على خطاياهم، ودعاهم إلى التوبة التي هي من أول أثمار البر، راجع (إصحاح 3) ووجد إسرائيل مقسومًا إلى صفين فالبعض، وهم المُعبر عنهم بالابن الأول، كانوا مُتمردين غير مُتظاهرين بالخضوع لله وأما الآخرون، وهم الكتبة ورؤساء الكهنة، فكانوا مُتظاهرين بالطاعة لله. فإنهم اعتنوا غاية الاعتناء بالطقوس والفرائض مع أن قلبهم مُبتعد عن الذي وضعها. فكان كلامهم ككلام الابن الثاني «ها أنا يا سيد» ولكنهم استمروا على حالتهم ولم يتأثروا لا بكرازة يوحنا، ولا بمُشاهدة علامات التوبة التي ظهرت حتى في الذين كانوا محسوبين أنهم أشرُّ الجميع. كان ينبغي أن يؤثر فيهم هذا المنظر إذ كان لكلمة الله بواسطة عبده يوحنا فعِل قوي في قلوب العشارين والزواني وأتت بهم إلى التوبة، فلو كان أولئك رُعاة حقيقيين لفرحوا برجوع الضالين، بل لأصغوا للكلمة الإلهية التي عَملت فيهم هذا العمل الحسن. ولكنهم ما ندموا أولاً ولا أخيرًا.
«إن العشارين والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله». لنُلاحظ أن الرب يستعمل هنا عبارة «ملكوت السماوات» لأنه يُشير بها إلى شيء حاضر. وقصد أن العشارين والزواني كانوا يدخلون ملكوت الله أو يخضعون لسُطانه. لأن التوبة تجعلنا نشعر بنسبتنا إلى الله كمن قد أخطأنا إليه، ونخضع له كمن له الحكم علينا، بل ونحكم على ذواتنا مُقرين أنه بار وحق في أعماله وأقواله ولو دَاننا. وهذه من الحقائق الدائمة.

مَثل الكرم والوارث

(عدد 33-44؛ مرقس 1:12-9؛ لوقا 9:20-19)

«اسمعوا مَثلاً آخر. كان إنسان رب بيت غَرس كرمًا وأحاطه بسياج وحفر فيه معصرة وبنى بُرجًا وسلمه إلى كرامين وسافر. ولما قرب وقت الأثمار أرسل عبيده إلى الكرامين ليأخذ أثماره. فأخذ الكرامون عبيده وجلدوا بعضًا وقتلوا بعضًا ورجموا بعضًا. ثم أرسل أيضًا عبيدًا آخرين أكثر من الأولين. ففعلوا بهم كذلك. فأخيرًا أرسل إليهم ابنه قائلاً، يهابون ابني. وأما الكرامون فلما رأوا الابن قالوا فيما بينهم، هذا هو الوارث. هلموا نقتله ونأخذ ميراثه. فأخذوه وأخرجوه خارج الكرم، وقتلوه. فمَتى جاء صاحب الكرم ماذا يفعل بأولئك الكرامين؟ قالوا له، أولئك الأردياء يهلكهم هلاكًا رديًا ويُسلم الكرم إلى كرامين آخرين يُعطونه الأثمار في أوقاتها. قال لهم يسوع أَمَاَ قرأتم قط في الكُتب. الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية. من قِبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيُننا لذلك أقول لكم، إن ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى لأُمة تعمل أثماره، ومن سقط على هذا الحجر يترضض ومن سقط هو عليه يسحقه (عدد 33-44).
في هذا المَثل يُوضح الرب لهم مُعاملات الله معهم منذ وضعهم كأُمة مُختارة في أرض كنعان إلى تكميل إثمهم بقتل ابنه والصورة التي رسمها طابقت الحال إلى هذا المقدار حتى التزموا أن يحكموا حُكمًا صائبًا. لا يُخفى أن أصل هذا المَثل موجود في (إشعياء 1:5-7) على أن الرب يُكمله ويُخصصه لحالتهم وقتئذ. كان الله قد أنعم عليهم ببركات وامتيازات لم يكن مثلها لشعب آخر انظر قوله «ماذا يُصنع أيضًا لكرمي، وأنا لم أصنعه له؟» ثم أرسل عبيده الأنبياء يطلب ثمرًا يليق بنسبتهم الفريدة له وتعبه فيهم. ولكنهم أظهروا بُغضهم لصاحب الكرم بما عملوا بعبيده. لنُلاحظ الصبر الإلهي المدلول عليه بإرسال عبيد آخرين مرة بعد أخرى ثم عند حضور الابن لم يَقصروا عن تقديم الأثمار فقط بل وصمموا على قتله لكي يكون لهم الميراث (مزمور 2) وبذلك أكملوا إثمهم، وفقدوا امتيازاتهم القديمة التي لم يعرفوا قيمتها. ثم عاد الرب فبَرعن لهم من كُتبهم أن الحجر المرفوض منهم لا بد أن يرتفع ويصير رأس الزاوية (مزمور 22:118، 23).
«من قِبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيُننا» (عدد 42) لم يتم هذا القول حينئذ لأن إسرائيل كانوا مُصابين بالعمى. كانت لهم أعيُن ولم يُبصروا بها ولكن سيَنزع الله البُرقُع عن قلوبهم فيما بعد (كورنثوس الثانية 16:3) وينظرون مجد الحجر المرفوض (كورنثوس الثانية 18:3؛ زكريا 7:4) ويعترفون بهذا الاعتراف.
«لذلك أقول لكم أن ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى لأُمة تعمل أثماره» (عدد 43) قال هذا طبقًا لجوابهم الوارد في (عدد 41). ولنُلاحظ أنه لم يقُل هنا، يُنزع منكم ملكوت السماوات بل «ملكوت الله» ولا يصح هنا تبديل العبارتين. لأنه يقصد هنا ملكوت الله عمل نعمة الله الفعال الذي ينتج ثمرًا «فجَاهر بولس وبرنابا وقالا كان يجب أن تُكلموا أولاً بكلمة ولكن إذ دفعتموها عنكم وحكمتم أنكم غير مُستحقين للحياة الأبدية هوذا نتوجه إلى الأُمم» (أعمال الرسل 46:13) فإن الله كف الآن عن العمل بينهم بعد الصبر الكافي وجعل يعمل بين الأُمم ولكن ليس قصد الرب هنا أن يوضح ذلك فإنه إنما يُنبههم إلى أن الله مُزمع أن يتركهم ولا يعمل بينهم. كان قد عَمل معهم منذ أن ابتدأ يُعاملهم ككرمة (خروج 4:19-6؛ مزمور 8:80) وعلى نوع أخص عند حضور ابنه (إصحاح 5:10، 6) وكان ملكوت الله حاضرًا بينهم بهذا المعنى. ولكنه قال أنه عتيد أن يُنزع منهم. ولم يمكن أن يقول أن ملكوت السماوات عتيد أن يُنزع منهم لأنه لم يكن قد فتح بعد، كما قد رأينا وفضلاً عن ذلك أقول أن ملكوت السماوات لم يُنزع من البيهود. لا شك أنهم رفضوه لما فُتح على يد الرسول بطرس ومن ثَمّ لا نقدر أن نقول عنهم الآن أنهم فيه بالمعنى الذي يصدق على النصارى لاعترافهم به. لأنهم لم يعترفوا مثلهم به ومع ذلك فهُم محسوبون فيه من حيث مسئوليتهم. وسيُحاسبهم الرب عند مجيئه كقسم من رعيته رافض لسُلطانه (لوقا 12:1، 14، 27).
«ويُعطى لأُمة تعمل أثماره» يُشير بهذا إلى عمل نعمة الله بين الأُمم، ونرى هنا أن الله حين ترك شعبه إسرائيل وأرسل كلمة نعمته للآخرين إنما عمل ذلك طالبًا الثمر فبالتبعية إن كان الأُمم لا يأتون بالأثمار المطلوبة فلا بد أن يدينهم أيضًا كما دان أولئك (انظر رومية 22:11-24) غير أن هذا المَثل لا يوضح ذلك بالتفصيل.
«ومن سقط على هذا الحجر يترضض» (عدد 44) أي كل مَنْ لا يؤمن به يهلك. لأنه كان صخرة عثرة للذين لا يؤمنون (بطرس الأولى 3:2-9) ولا يزال هكذا إلى الآن.
«ومن سقط هو عليه يسحقه» هنا يُشير إلى سقوط هذا الحجر على أعدائه بالدينونة. انظر ما قيل «كنت أنظر إلى قطع حجر بغير يدين فضُرب التمثال على قدميه التين من حديد وخزف فسحقهما إلخ» (دانيال 34:2، 35، 45).
«ولما سمع رؤساء الكهنة والفريسيون أمثاله عرفوا أنه تكلم عليهم. وإذ كانوا يطلبون أن يمسكوه خافوا من الجموع لأنه كان عندهم مثل نبي» (عدد 45، 46) وهنا قد انكشف أمر رؤساء إسرائيل تمامًا. فإنهم صمموا على الاحتفاظ بسُلطانهم الكاذب مهما كانت النتيجة. ومن الجهة الواحدة أبغضوا المسيح وقصدوا إلقاء القبض عليه في حين أنهم من الجهة الأخرى خافوا من الجموع